مقدّمة
- منذ أن باشرت كنيستنا الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة أعمال مجمعها البطريركيّ، أَولَت مسألة هويّتها ودعوتها ورسالتها اهتمامًا كبيرًا بحيث جعلتها في طليعة المواضيع المجمعيّة المطروحة للبحث. فالمشروع المجمعيّ الذي يدفع بالكنيسة المارونيّة اليوم إلى إعادة نظر شاملة في شؤونها الكنسيّة لا يبلغ مرتجاه إلاّ إذا كان منسجمًا مع العناصر الأساسيّة التي تُكوّن هويّتها والتي في ضوئها تنجلي دعوتُها وتتحدّد رسالتُها. ويتوخّى هذا النصّ إظهار تلك العناصر في ترابطها وتكاملها قبل أن تتناول النصوص المجمعيّة الأخرى منفردةً إبراز ميزات كلّ منها. وهذه العناصر تؤلّف مجتمعةً، التراث الحيّ الذي يُعطي الكنيسة المارونيّة خصوصيّتها ضمن الكنيسة الجامعة في عيش سرّ الخلاص بيسوع المسيح والشهادة له في النطاق الأنطاكيّ وبلدان الانتشار. وتسعى كنيستنا اليوم، كما سعت بالأمس، إلى ان تكون بخصوصيّتها هذه أمينةً لهذا السرّ الذي منه تنطلق، وعليه تُبنى كلّ هويّة مسيحيّة صحيحة. فبقدر ما ترتبط تلك العناصر بشخص يسوع المسيح الذي “هو هو بالأمس واليوم وللأبد” (عب 13/8)، تحتلّ مكانةَ القلب النابض في وجدان الموارنة.
- ولا يغيب عن بال أبناء الكنيسة المارونيّة، وهم يَسعَون إلى استجلاء عناصر هويّتهم، أنّ كنيستهم البطريركيّة هي قبل كلّ شيء تحقيق لسرّ الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدّسة، الرسوليّة، في البيئة الخاصّة التي دُعوا إلى ان يشهدوا فيها على إيمانهم الرسوليّ وقِيَمهم الإنجيلية. ولا يرضون بالتالي أن ينقادوا في مسعاهم هذا إلى اعتبارات ثقافيّة أو قوميّة أو سياسيّة بحتة. فالكنيسة هي، بالنسبة إليهم، عملُ الله الآب الخلاصيّ بواسطة ابنه يسوع المسيح وبفعل روحه القدّوس كما يُعلنون منشدين في صلاة يوم أحد تجديد البيعة وتقديسها: “المجد للآب الذي بنى البيعة منذ القديم؛ والسجود للابن الذي وضع فيها جسده لمسامحة الذنوب؛ والشكر للروح الذي ينـزل ويحلّ ويقدّسه؛ هو السرّ الخفيّ الذي لا يُستقصى؛ له المجد”[1].
- وفي سعينا إلى استجلاء عناصر هويّة الكنيسة المارونيّة، يتبيّن كم أنّ تلك العناصر هي في جوهرها مشترَكة بين الكنائس الأنطاكيّة والسريانيّة، وﺇنِ اتخذت بفعل الزمن طابعًا مارونيًّا مميّزًا، من دون ان يَحجُبَ ذلك أصلها الأنطاكيّ والسريانيّ. فالعودة إلى هذا التراث المشترك هو، بالنسبة إلى الكنيسة المارونيّة، التزام مسكونيّ يُسهم في استعادة كنائسنا الشركة التامّة بينها “وهي تعمل للحقّ بالمحبّة” (أف 4/15)، وذلك في سبيل تعزيز حضورها الانجيليّ في هذا الشرق وفي العالم، أمانةً لدعوة معلّمها.
- لا ريب في ان ظاهرة الهجرة المارونيّة الكثيفة من لبنان والدول المجاورة إلى بلدان العالم الأخرى، أسهمت، في جعل مسألة هويّة الكنيسة المارونيّة من الأوّلويات المجمعيّة. فكان لا بدّ لهذه الكنيسة، حيثما حلّ أبناؤها، من أن تُبرز العناصر الأساسيّة لهويّتها، أساس دعوتها ورسالتها، فتعمل على تأوينها لتتلاءم مع ثقافات الشعوب التي انتمى أبناؤها إليها، وذلك للحدّ من تشتّتهم أو ذوبانهم، وصونًا لوحدتهم، في سبيل تعزيز الرسالة المسيحيّة الخاصّة التي اؤتمنوا عليها.
- في ضوء ما تقدّم، يعرض النصّ العناصر الأساسيّة لهويّة الكنيسة المارونيّة، فيتبيّن أنّها، أوّلاً، كنيسة أنطاكيّة سريانيّة ذات تراث ليتورجيّ خاصّ؛ ثانيًا، كنيسة خلقيدونيّة؛ ثالثًا، كنيسة بطريركيّة ذات طابع نسكيّ ورهبانيّ؛ رابعًا، كنيسة في شركة تامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الروماني؛ خامسًا، كنيسة متجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة، وفي بلدان الانتشار. وبما أنّ دعوة الكنيسة المارونيّة ورسالتها لا تنفصلان عن هويّتها، فاقتضى الأمر بإظهارهما تباعًا، إنطلاقًا من العناصر التي تكوّن هذه الهويّة.
- وقبل الشروع في تبيان تلك العناصر، لا يسعُنا إلاّ أن نذكّر بأنّ اسمَ الموارنة يرجع إلى اسم القدّيس مارون، المتوفَّى حوالي 410، وإلى الدير الذي بُنيَ على اسمه، بُعَيد مجمع خلقيدونيا (451)، في منطقة أفاميا الكائنة في سورية الثانية، وفق التنظيم الرومانيّ القائم آنذاك. ويُعتبر دير مار مارون بحقّ مهدَ الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة التي نشَأَت في كَنَفه وحولَه بطريركيّةً مستقلّةً في تاريخ غير محدّد، بين نهايات القرن السابع والنصف الأوّل من القرن الثامن (راجع الفصل الثالث من هذا النصّ). أما القدّيس مارون، شفيع كنيستنا التي تُعيِّد له في التاسع من شباط، فقد ابتكر طريقةً نسكيّةً فريدةً من نوعها على جبل قورش في سورية الأولى، قوامها العيش في العراء. وقد كتب سيرة حياته وحياة تلاميذه في النسك، تيودوريطُُس القورشي (459 +)، في كتابه الشهير عن رهبان سورية ونسّاكها، وذلك بين مطلع القرن الرابع ومنتصف القرن الخامس[2].
الفصل الأوّل : كنيسة أنطاكيّة سريانيّة ذات تراث ليتورجيّ خاصّ
- تكوّنت الكنيسة المارونيّة ضمن الكنيسة الأنطاكيّة التي نشأت من تبشير الرسل وهي تعترف بأنّها كنيسة بطرسيّة الأساس. ففي أنطاكية، عاصمة الإقليم الشرقيّ في الأمبراطوريّة الرومانيّة “دُعي التلاميذ لأوّل مرّة مسيحيّين” (رسل 11/26)، وهي الصفة الجامعة بين أتباع يسوع والأساس الثابت لكلّ هويّة كنسيّة صحيحة. وفي أنطاكيّة أيضًا، انفتحت الكنيسة على الأمم فأضحت “بنت الشعوب”.
- امتازت الكنيسة الأنطاكيّة، منذ نشأتها، بعيش الوحدة في الإيمان والشركة ضمن أطر التعدّديّة التي وسمت شعوب هذه المنطقة من خلال تنوّع الحضارات والثقافات واللغات. وقد أكسبت هذه التعدّديّة الكنيسة الأنطاكيّة خصبًا روحيًّا وفكريًّا وغَيرة رساليّة، امتازت بها عن سائر الكنائس. وإنّ التراث المسيحيّ الأنطاكيّ يُعتبر، إلى يومنا هذا، من أغنى التراثات وأعمقها. وقد كان له الأثر الكبير في تاريخ الكنيسة وحياتها، وبنوع خاص طوال القرون الستّة الأولى، إذ أتاح للاهوت المسيحيّ أن يُفصح عن ذاته عبر تيّارين حضاريّين، تفاعل أحدهما بالآخر وتداخلا: التيّار الآراميّ – السريانيّ والتيّار الهلّينيّ. وكان التيّار الآراميّ طاغيًا في المدن الداخليّة والأرياف في حين أن التيّار الهلّينيّ سيطر على بعض المدن الساحليّة.
- في هذا التنوّع الحضاريّ واللغويّ، نشأت كنائس محليّة في أنطاكيّة امتازت كلّ منها بطابعها الخاص مع المحافظة على البنية المجمعيّة التي نشأت عليها الكنيسة الأولى. وهذه البُنية تربط أواصر الشركة بين أعضاء الكنيسة المحليّة الواحدة على اختلاف مواهبهم ووظائفهم في سبيل بناء جسد المسيح الواحد. ولنا، في العهد الجديد، شواهد عديدة على قيامها وأهميّتها من حيث الحفاظُ على الشركة والوحدة (راجع رسل 2/44؛ 4/32؛ 15/1-29؛ 1 قور 12/12- 30).
- في أنطاكية، عرفنا أوّل لاهوت للكنيسة المحليّة التي تظهر وحدتها وجامعيَّتها وتحقِّقها بالاحتفال الافخارستيّ. ويذكّر القديس أغناطيوس الأنطاكيّ الكنائس التي كتب إليها رسائله ليشدّدها في زمن الاضطهاد ويدعم وحدتها: “لا تشتركوا إلاّ في أوخارستيّا واحدة. فإنّه ليس لربّنا سوى جسد واحد وكأس واحدة توحّدنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد، مع لفيف الشمامسة، رفاقي في الخدمة. وهكذا تتمّمون، في كلّ شيء، إرادة الله”[3]. فالأسقف هو خليفة الرسل، وهو يحتلّ في البنية المجمعيّة وخدمة الوحدة مكانة الأوّل الذي يسهر على اعتلان الكلمة في كنيسته المحليّة، وعلى صحّة الإيمان فيها، وعلى عيش الشركة من خلال التنوّع المتناسق. وهو المسؤول عن استجلاء مواهب الروح القدس في المؤمنين، والساهر دومًا على تبيانها وتوظيفها في سبيل بنيان جسد المسيح الواحد. وغنيّ عن القول أنّ هذه الشركة الروحيّة تبلغ ذروتها وتعتلن اعتلانًا خاصًا وبيّنًا في الاجتماع الإفخارستيّ الذي يرأسه الأسقف أو من ينتدبه هو لهذه المهمّة.
- وهذا النظام الأسقفيّ المجمعيّ هو في أساس النظام البطريركيّ الذي لا يزال سائدًا في الشرق، وأيضًا في أساس المجمعيّة الأسقفيّة التي تتّسع أُطُرها لتشمل الكنيسة الجامعة. وقد كانت المجامع الإقليميّة والسينودسات البطريركيّة، ولا تزال، المكان الذي تعتلن فيه الشركة بين الكنائس المحليّة من خلال ممارسة هذه المجمعيّة الأسقفيّة بروح الشورى والمحبّة والتداول في الشؤون المشتركة واتخاذ القرارات المناسبة. وإننا نجد صدىً عميقًا في كتابات العديد من الآباء القدّيسين لهذه الروح المجمعيّة، لأنّها ضمان الوحدة في الكنيسة. لذا اعتمدت الكنيسة، منذ عهدها الأوّل، عقد المجامع وتبادل رسائل الشركة أو الرسائل السلاميّة كعلامة للشركة بين الكنائس المتعدّدة.
- وتنتمي كنيستُنا الأنطاكيّة المارونيّة إلى عائلة الكنائس ذات التراث السريانيّ، في فرعَيه “الغربيّ والشرقيّ”، وبهذا التقسيم المتداوَل إشارةٌ إلى السريان القاطنين في المناطق الواقعة غرب نهر الفرات وشرقه. وقد أغنى هذا التُراثَ، في أبعاده اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة، آباءٌ سريان عبّروا عن إيمانهم المسيحيّ بلغة ساميّة قريبة من لغة كتاب العهد القديم. وتمحوَر نشاطُهم الفكريّ والكنسيّ حول مدارس أنطاكيّة والرُّها ونُصيبين اللاهوتيّة. وقد تجلّى هذا التراث على الصعيد الليتورجيّ بالصلوات الشعريّة التي نَظَمَها لاهوتيّون شعراء، أمثال أفرام (373+) ويعقوب السّروجي (521+) وبالاي (المتوفّى بعد 432)، وغيرهم. وهي تظلُّ حتى اليوم المصدر الأساس لنصوص الفرض المارونيّ في قسميه المخطوط والمطبوع، ما زلنا ننهل من روحانيتها العميقة المُشبعة بمراجع من الكتاب المقدّس في عهديه، القديم والجديد. وتحمل هذه الصلوات أيضًا طابعًا مريميًّا مميّزًا ودعوةً مُلحّةً إلى التوبة على رجاء ملاقاة العروس في نهية الزمن. فالعودة المرجوّة إلى هذا التراث المشترك، الذي تكوّن في أقسامه وميزاته الأساسيّة قبل نشأة البطريركيّة المارونيّة بين نهايات القرن السابع والنصف الأوّل من القرن الثامن، تجعلُ من المؤمنين الموارنة شركاء مع إخوانهم الأنطاكيّين والسريان، في ورشة عملٍ واحدة، سعيًا إلى إعادة اكتشاف هذا التُراث وإحيائه والإفادة منه، أمانةً لهويّتهم المشتركة وإغناءً للكنيسة الجامعة.
- وينوّه مجمعنا بكلّ الجهود والإنجازات الكثيرة والمهمّة التي حصلت منذ بضعة عقود، في لبنان ودنيا الانتشار، بفضل الجامعات والاكليريكيّات المارونيّة وغيرها، وعمل بعض الأفراد، في مجال نبش التراث الأنطاكيّ السريانيّ، في أبعاده اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة، وتقديمِه في حلّة جديدةٍ تكون بمتناول أبناء كنائسنا حيثما حلّوا. ويحثّ مجمعنا تلك الجامعات والاكليريكيّات على أن تتابع احتضانها هذا المشروع بحيث لا يبقى همًّا يلتزم به بعض المستشرقين في العالم الذين قدّموا وما زالوا يقدّمون خدمات جُلّى في هذا المضمار. ويترتّب على الأبرشيّات والرهبانيّات اختيار من يتوسّمون فيهم المزايا العلميّة وحبّ اللغات القديمة والحديثة، ودفعهم إلى التكرّس لهذا العمل الشاق والمخصب في آن، مقدّمين لهم الدّعم الكافي على الصعيدين الروحيّ والماديّ. فالتكرّس لهذا العمل اللاهوتيّ هو خدمةٌ ضروريّةٌ لتعزيز رسالة كنيستنا وتأوينها في ضوء خصوصيّتها.
الفصل الثاني : كنيسة خلقيدونيّة
- في قولنا إنّ كنيستَنا المارونيّة هي خلقيدونيّة، نَعني أنّها تواصل الأمانة “لسرّ التدبير الخلاصيّ” كما اعترف به وشهد له رهبان دير مار مارون، مهد كنيستنا، تبعًا “لقانون الإيمان” الذي حدّده آباء المجمع المسكونيّ الرابع في خلقيدونيا سنة 451. ويعلّم هذا القانون أنّ المسيح هو في طبيعتَين كاملتَين، إلهيّة وإنسانيّة، متّحدتين بشخص سيّدنا يسوع المسيح، وأنّ تمايز الطبيعتين يظلّ قائمًا بعد تلك الوحدة. وبهذا تأكيد على إنسانيّة السيد المسيح وحقيقة التجسّد والخلاص[4].
- وقد استند آباء المجمع في تحديدهم هذا إلى الرسالة التي كان قد وجّهها البابا لاوون الكبير سنة 449 إلى فلافيانوس بطريرك القسطنطينية (446-449) وفيها يشجب قول الراهب أوطيخا بأن للمسيح طبيعة واحدة بعد التجسّد، بحيث يؤدّي ذلك إلى تلاشي الإنسانيّة في الألوهيّة وإلى إفراغ حدث التجسّد من معناه الخلاصيّ. واعتبر الآباء الرسالة البابويّة هذه “تتوافق واعتراف بطرس العظيم وتكوّن ركنًا مشتركًا مضادًا لذويّ الآراء الخاطئة”[5]. وممّا لا ريب فيه أن تمسّك دير مار مارون “بقانون الإيمان” الخلقيدوني، في سياق رسالة البابا لاوون، كان من العوامل الرئيسة والعريقة التي عزّزت لاحقًا شركة الكنيسة المارونيّة التامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ (عدد 29). وتعبّر ليتورجيتُنا المارونيّة بشكل بليغ عن مفاعيل سرّ التجسّد في حياة الانسان حين نردّد كلّ يوم في القداس: “وحّدت يا ربّ لاهوتك بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك لتحيينا وتُخلّصنا، لك المجد إلى الأبد”.
- غير أنّ “قانون الإيمان” الخلقيدوني لاقى منذ البداية، لأسباب لاهوتيّة وغير لاهوتيّة، معارضةً قويّةً بلغت حدّ الرفض لدى معظم المسيحيّين في شرقنا، وهم يكوّنون ما يُسمّى اليوم بعائلة الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة[6]. وتمحورت مواقفهم حول رفض التمايز بين الطبيعتين بعد التجسّد، منعًا لأيّ إنقسام بين لاهوت المسيح وناسوته، وبالتالي حرصًا منهم على الوحدة في شخص يسوع المسيح كما أقرّها آباء مجمع أفسس سنة 431. ولا بدّ لكنيستنا من أن تحمَد الله على النتائج الايجابيّة التي آلت إليها الحوارات اللاهوتيّة، الرسميّة وغير الرسميّة، في مسألة سرّ التجسّد، بين الكنيسة الكاثوليكيّة وعائلة الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة، إذ بيّنت هذه النتائج أنّ الإيمان بهذا السرّ هو واحد في جوهره ومتنوّع في تعابيره. فلا يعودُ هذا التنوّع، كما كان حتى الماضي القريب، شعار تفرقةٍ وتباعدٍ بين الكنائس، مع ما يستتبع ذلك من تراجعٍ في الشهادة المسيحيّة، بل إرثًا غنيًا ومشتركًا بحيث لا تقوى عبارة واحدة على ادراك هذا السرّ العظيم أو الإحاطة به بطريقة حصريّة ونهائيّة[7].
- في هذا السياق، وإن يكن هذا التنوّع يُصيب الألفاظ والتعابير من دون المساس بالجوهر، يمكننا القول بأنّه أَسهَم في بلورة أنماطِ حياةٍ كنسيّة مختلفة ومتكاملة أثّرت في روحانيّة كنائسنا ورسالتها في بيئتها. وهكذا تعي الكنيسة المارونيّة في ضوء تاريخها الطويل أنّ إيمانها بسرّ التجسّد، وفق الصيغة الخلقيدونيّة، أسهم في تكوين روحانيّة مارونيّة متجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة. وقد بدا ذلك في سعي أبنائها الدؤوب مع شركائهم في المصير، من مسلمين ومسيحيّين، إلى العمل معًا في شتّى المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، من أجل ترقّي الانسان، كلّ إنسان، ليستعيد، بيسوع المسيح، كلمة الله المتجسّد، كرامته وصورة الله فيه (راجع الفصل الخامس).
الفصل الثالث : كنيسة بطريركيّة ذات طابع نسكيّ ورهبانيّ
- نشأت البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة في كَنَف دير مار مارون في تاريخ غير محدّد، بين نهايات القرن السابع والنصف الأوّل من القرن الثامن، ضمن ظروف دينيّة وثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة لم تتّضح بعد كلّ معالمها، وقد أدّت مجتمعةً إلى انقسام الكرسيّ الملكيّ الأنطاكيّ بين “الموارنة” و”الروم”. ويُعوِّل مجمعُنا على أصحاب الاختصاص في التاريخ الكنسيّ أمرَ توضيح تاريخ الكنيسة المارونيّة في هذه المرحلة الدقيقة منه، بحيث يكون مقدّمة لكتابةٍ مشتركة و”مسكونيّة” لتاريخ الكرسيّ الأنطاكيّ، متذكّرين قول بولس الرسول: “وإذا عَمِلنا للحقّ بالمحبّة نمَونا وتقدّمنا في جميع الوجوه نحو ذاك الذي هو الرأس، نحو المسيح” (أف 4/15). فمنذ القرن الثامن، برز “الموارنة” جماعةً كنسيّة مستقلّةً ضمن الكرسيّ الأنطاكيّ إلى جانب كنيسةِ السريان الأرثوذكس من جهة[8]، وكنيسة الروم الأرثوذكس لاحقًا من جهة ثانية[9]. فكان لهذا الحدث المؤسِّس أثرٌ كبير دَمغ الكنيسة المارونيّة، إكليروسًا وعلمانيّين، بطابعٍ نسكيّ ورهبانيّ مميّز أثّر في روحانيّتها وتنظيمها الكنسيّ. وها هي اليوم تبحث من خلال مجمعها البطريركيّ عن سبل تأوين هذا الطابع من أجل أداء رسالتها الانجيليّة في محيطها وفقًا لموهبتها الخاصّة.
- إنّ أساس البطريركيّة المارونيّة النُسكيَّ والرُهبانيَّ لا يعني أن كنيستنا هي نتيجة حركة رهبانيّة مستقلّة ضمن الكرسي الأنطاكيّ. فدير مار مارون كان في الهيكليّة الكنسيّة الأنطاكيّة منذ نشأته عقب المجمع الخلقيدوني (451) حتى بروز البطريركيّة المارونيّة في كَنَفه. ويؤكّد ذلك وجود رهبان – أساقفة، على الأقلّ في القرن الثامن، تسلّموا رئاسة هذا الدير، جريًا على تقليد كنسيّ قديم في كنائسنا الشرقيّة. إنّ هذا التوافق الرهبانيّ – الأسقفيّ يدلّ على أن دير مار مارون ورهبانه، كما الأديار والجماعات المسيحيّة التي تحلّقت حوله، كانت في الهيكليّة الأنطاكيّة من خلال اسقف هذا الدير وأساقفة الأديرة المجاورة. يتبيّن من هذا كلّه أنّ دير مار مارون كان في تواصل مع الدور الكنسيّ الذي أُسند إليه من قِبَل الكنيسة الأنطاكيّة في القرن السادس لما عُيّن رئيس “دير الطوباوي مارون” “إكسَرْخُسًا” (exarque) لأديار سورية الثانية أيّ رقيبًا عليها ووسيطًا بينها وبين البطريرك الأنطاكيّ من جهة والأمبراطور من جهة ثانية[10].
- في هذا السياق، وبالاستناد إلى تقليد قديم نقله الينا الطيّب الذكر البطريرك اسطفانوس الدويهي (1670-1704)، تعتبر كنيستنا القدّيس يوحنّا-مارون الذي كان راهبًا في دير مار مارون ومن ثمّ رئيسًا عليه، أوّل بطريرك أنطاكيّ على الموارنة، وهي تعيّد له في الثاني من شهر آذار[11]. وقد افتَتَح يوحنا- مارون سلسلةً من البطاركة – الرهبان استمرّت من دون انقطاع حتى القرن السابع عشر بحيث كانت الحالةُ الرهبانيّة ملازمةً للخدمة الأسقفية أو البطريركيّة في كنيستنا. فالرهبان، بعد سيامتهم الأسقفيّة، كانوا يستمرّون في الحالة الرهبانيّة التي اعتنقوها. وهذا يعني أنّ الحالة الرهبانيّة هي راعويّة بقدر ما هي إنجيليّة في منطلقاتها وأهدافها[12].
- غير أنّ هذا الرابط الوثيق بين الحالة الرهبانيّة والأسقفيّة بدأ بالتحوّل منذ أن درجت العادة عندنا، بتأثيرٍ من الكنيسة الرومانيّة عبر المدرسة المارونيّة في روما (1584)، على أن تُسنَد خدمة الأسقفيّة أو البطريركيّة، كما في الغرب، إلى من هم في حالة البتوليّة، بقطع النظر عن وضعهم الإكليريكيّ أو الرهبانيّ. وبالرغم من هذا التحوّل، أبقت “الشرطونيّة” المارونيّة، أيّ كتاب السيامات، إلى يومنا، على هذا الرابط التقليديّ إذ يتّشحُ المختار للأسقفيّة بالإسكيم الرهبانيّ (القلنسوة) إذا لم يكن من صفوف الرهبان.
- لا ريبَ في أنّ أساس البطريركيّة المارونيّة النُسكيّ والرُهبانيّ جعل من الكنيسة المارونيّة عبرَ تاريخها الطويل، جماعةً ديريّة كبيرة هي “رعيّة البطريرك”، رعيةٌ تمحورت حول دير الكرسيّ البطريركيّ، ورأت في الجالس على هذا الكرسيّ “الأبَ والرئيس” والحافظ لوحدتها. وكان لهذا الأساس أثرٌ كبيرٌ في التنظيم الكنسيّ المارونيّ، وقد استمرّ حيًّا حتى المجمع اللبنانيّ الذي انعقد سنة 1736. فكوَّن هؤلاء طوال تلك الفترة رعيّةً واحدةً يسهر البطريرك على شؤونها من دون منازع، وإن شاركه في تدبير الأمور الزمنيّة بعض الأعيان، وفي الأمور الراعويّة عددٌ من الأساقفة المعاونين الذين كانوا يسكنون معه في الدير البطريركيّ أو في الأديار المجاورة، وينتدبهم للقيام باسمه بزيارات راعويّة. وبالرغم من الاعتراضات التي أصابت سلطة البطريرك المطلقة بين الحين والآخر ، يبقى أنّ هذا التنظيم كان في مجمله شاهدًا حيًّا على مجمعيّة أسقفيّة متواصلة تركّزت على شركة الحياة الديريّة الثابتة، وهي شركة قوامُها الصلاة الخورسيّة والتأمّل في الكتاب المقدّس والعمل اليدويّ وممارسة الأصوام.
- وقد تبدّلت طرق ممارسة المجمعيّة الأسقفيّة تلك منذ أن أصدر آباء المجمع اللبنانيّ (1736) قانون توزيع الأبرشيّات وأوصى الأساقفة بالإقامة في أبرشيّاتهم[13]. وبالرغم من الحاجة الراعويّة الملحّة إلى هذا الإصلاح الأبرشيّ، تبيّن أنه قوبِل طويلاً بالحذر أو الرفض من جانب بعض الفئات، ربّما من باب الحفاظ على وحدة هذه “الجماعة الديريّة” الكبيرة حول راعيها. أمّا اليوم، وبعد مضيّ حوالي ثلاثة قرون على المجمع اللبنانيّ، فإنّ خبرة المجمعيّة الأسقفيّة وفقَ “النمط الديري” لا تزال عالقةً في الذاكرة المارونيّة، وبخاصة إبّان الملمّات، لما تمثّل من شركةٍ كنسيّة فعليّة بين البطريرك والأساقفة من شأنها أن تُلهم ممارسة المجمعيّة الأسقفيّة في أيّامنا وتعزّزها.
- وبالتزامن مع التحوّل الذي لم تَعُد فيه الحالة الرهبانيّة ملازمةً للأسقفيّة، حدث تحوّل آخر أصاب وضع الحياة الرهبانيّة القانونيّ في كنيستنا البطريركيّة. فمنذ نهاية القرن السابع عشر، شَهِدَت كنيستُنا إصلاحًا رهبانيًّا واسع النطاق حاول روّاده التوفيقَ بين أصالة الروحانيّة الشرقيّة والتنظيم الغربيّ، فكانت نشأة الرهبانيّات في شكلها القائم حتى الآن. واللافت في هذا الإصلاح على الصعيدين الكنسيّ والقانونيّ هو تثبيت قوانين تلك الرهبانيّات على يد الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ بعد أن كان تثبيتها قد تمّ في صيغتها الأولى من جانب الكرسيّ البطريركيّ في قنّوبين؛ وقد استتبع ذلك “حقًّا حبريًّا” ما زالت تلك الرهبانيّات تنعم به حتى اليوم واستقلاليّة قانونيّة عن الهيكليّة البطريركيّة[14].
- وقد حَظِي هذا التحوّل في حينه برضى البطريركيّة المارونيّة. وتفسير ذلك يعود إلى وعي أبناء الكنيسة المارونيّة المتزايد، إكليروسًا وعلمانيين، أن كنيستهم البطريركيّة هي جزء لا يتجزّأ من الكنيسة الكاثوليكيّة التي يرعاها أسقف روما، خليفة بطرس، والذي يحظى – بموجب مبادئ “اللاهوت الكنسيّ الكاثوليكي” (ecclésiologie catholique) – بأوّليّة فعليّة على الكنيسة جمعاء، هي استمراريّةٌ لأوّليّة بطرس على الرسل والكنيسة الأولى، وضمانةٌ لوحدة كنيسة المسيح المنظورة ونموّ رسالتها في العالم. أمّا اليوم، وفي ضوء مفهوم الكنيسة-الشركة على الصعيدين المحلّي والجامع وفق تعليم المجمع الفاتيكانيّ الثاني، فيجدر بكنيستنا البطريركيّة “ذات الحق الخاص” أن تولي هذا المفهوم الاهتمام اللاهوتي الكافي فتسعى إلى بلورة السبل العمليّة الكفيلة بتعزيز روح الشركة بين أبنائها وعلى جميع المستويات. ويتمّ ذلك على صعيد الهيكليّات من خلال تعميق ممارسة المجمعيّة الأسقفيّة بين البطريرك والأساقفة من جهة، وتفعيل العلاقات المُتبادلة بين الرَّهبانيات “ذات الحقّ الحبريّ” والبطريركيّة من جهة ثانية، فتغدو الهيكليّة البطريركيّة، مع الزمن، واسطة الشركة الكنسيّة بين الكنيسة المارونيّة، إكليروسًا ورهبانًا وراهبات وعلمانيّين، والكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ.
- لا رَيبَ في أنّ هذه التحوّلات بدّلت مع الزمن الطابع الرهبانيّ التقليديّ الذي تميّزت به كنيستنا البطريركيّة. ويَعي مجمعنا أن استعادة هذا الطابع لن تتمّ بمجرّد العودة إلى المرحلة التي سَبقَتْ تلك التحوّلات. لذا لا بدّ من أن نبحث بروحٍ كنسيّة عن السبل الكفيلة باستعادة روح هذا الإرث. وقد لا يكون مناسبًا، على الأقلّ في المدى القريب، طرح هذه المسألة من الزاوية القانونيّة. فمجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة تحدّد بالكثير من الدّقة مكانة الرهبانيّات ذات “الحقّ الحبريّ” في الكنيسة البطريركيّة ذات “الحقّ الخاصّ” من جهة، وعلاقة كلّ من الكنيسة البطريركيّة والرهبانيّات بالكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ من جهة أخرى[15]. ما يُمكن فعلُه في هذا المجال بالذات، ومن دون إبطاءٍ، هو متابعة عمل الدائرة البطريركيّة للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات، وذلك تعزيزًا لرسالة كنيستنا ولروح الشركة بين أبنائها.
- ويُدرك مجمعنا البطريركيّ أنّ همّ استعادة الطابع النُسكيّ والرهبانيّ في كنيستنا لا يتوقّف عند هذا الحدّ من التنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات. فإذا كانت الحياة الرهبانيّة هي “روح الكنائس الشرقيّة”، حسب قول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني (نور الشرق، 9)، فهي بالنسبة الينا بمثابة موهبة (“كاريسما”) إنجيليّة مُؤسِّسة كوّنت كنيستنا الأنطاكيّة وطَبعتها عبر تاريخها الطويل. وهذا يدعونا بإلحاح، إكليروسًا ورهبانًا وعلمانيّين، إلى استجلاء معنى هذه الموهبة المؤسِّسة ومقتضياتها. فهذه كانت ولم تزل أنجيليّةً بامتياز في كونها تدفع بالمؤمنين إلى أن يأخذوا على مَحمَل الجدّ كلّ متطلّبات السير وراء المسيح كما هي واردةٌ في الإنجيل: “وقال للناس أجمعين: من أراد أن يتبعني، فليزهَد بنفسه ويحمِلْ صليبه كلّ يوم ويتبعني” (لو 9/23). وتتجسّد تلك الموهبة بالصلاة المستمرّة والهذيذ بكلمةِ الله، وبالتوبة الصادقة من أجل الملكوت، وببساطة العيش والتعاضد الأخويّ شهادة على المحبّة. وأبهى ما في هذه الموهبة هو التشديد على حالة السهر، بقوّة الرجاء الذي لا يُخيّب (روم 5/5) ورهبةِ الدينونة لانتظار السيّد المسيح عند مجيئه الثاني ليدينَ الأحياءَ والأموات (قانون الإيمان النيقاوي – القسطنطيني)، ويرفَعَ الكلّ إلى أبيه “ليكون اللهُ كلَّ شيء في كلِّ شيء” (1 قور 15/28). فالمؤمنون بالمسيح يشهدون على القيم الانجيليّة في ضوء “سرّ التدبير الخلاصي” بكل أبعاده وهو سرّ يجدُ كمالَه في حدث المجيء الثاني. وأبناء كنيستنا المارونيّة “يتذكّرون” هذا المجيء وكأنه قد تمّ، أيّ يجعلونه حاضرًا، وذلك في احتفالهم الإفخارستيّ عندما يُعلن المحتفل في نافور مار مرقس قائلاً: “فيما نذكرُ، يا ربّنا يسوع المسيح، كلّ تدبيرك الخلاصيّ من أجلنا: الحبل بك، وميلادك، وعمادك، وآلامك الخلاصيّة، وموتََك المحيي، ودفنك الثلاثيّ الأيّام، وقيامتك المجيدة، وصعودك إلى السماء، وجلوسك عن يمين الله الآب، ومجيئك السيّديّ، الذي تدين فيه جميع أبناء البشر…”[16].
- في هذا السياق، يتبيّن أنّ همّ استعادة الطابع النسكيّ والرهبانيّ في الكنيسة المارونيّة يعني جميع أبنائها وبناتها في تنوّع مواهبهم وأنماط حياتهم. فبقدر ما يعبّر هذا الهمّ عن خيار انجيليّ ملازم لنشأتهم، يترتّب عليهم أن ينطلقوا “انطلاقة جديدة من المسيح”[17] تجعل منهم “جماعة مكرّسة” للرب وعلامة لملكوته. ويعي مجمعنا البطريركيّ أهميّة تلك الانطلاقة الجديدة من المسيح لتحقيق التجدّد الراعويّ والروحيّ المنشود في كنيستنا، وهو عنوان الملف الثاني، لاسيّما منه ما يتعلّق بتجدّد الأشخاص: البطريرك والأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيّين والعائلة والشبيبة (نصوص 6-11).
الفصل الرابع : كنيسة في شركة تامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ
- إنّ الشركة مع الكنيسة الرومانيّة عنصرّ أساسيّ وعريق في هويّة كنيستنا المارونيّة ودعوتها ورسالتها. ولَئن اتّضحت أبعاد هذه الشركة في شكلها التاريخيّ المعروف في بدايات الألفيّة الثانية، فإنّها لم تكن عند كنيستنا أمرًا عابرًا أملَته عليها ظروف تاريخيّة معيّنة. فاستمراريّتها الثابتة حتى أيّامنا هي خير تعبيرٍ عن أمانتها الراسخة لتقليدٍ كنسيّ عريقٍ ومشترك بين الشرق والغرب، يولي أسقفَ روما، خليفةَ بطرس، رأس الرسل، مهمّة السهر على الوحدة المنظورة في كنيسة المسيح وخدمة الشركة بين الكنائس. وقد تكون استقلاليّة الكنيسة المارونيّة هي التي حفظت الموارنة منذ القرن الثامن في هذا التقليد. ولا يبدو أنّهم قد تأثّروا بالنـزاعات اللاهوتيّة التي دارت طويلاً بين “اللاتين واليونان” حول طبيعة الكنيسة وبُنيتها، وهي نزاعات أدّت إلى قطع الشركة القانونيّة بين كنيستي روما والقسطنطينيّة في القرن الحادي عشر. وكما جاء في النصّ المجمعيّ هذا (عدد 15)، تَعي الكنيسة الأنطاكيّة المارونيّة أنّ إيمانها بسرّ التجسّد وفق الصيغة الخلقيدونيّة كان أيضًا من العوامل الرئيسة التي عزّزت شركتها التامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ.
- ولم تؤدِّ تلك الشركة إلى انقسامٍ في صفوف الموارنة بين مؤيّد ورافض لها، خلافًا لما حَصلَ في الكنائس الشرقيّة الأخرى ابتداءًا من القرن السادس عشر، بفعل حركة الاتحاد الناشطة مع روما، الأمرِ الذي خلّف ازدواجيّة في السلطة الكنسيّة وتباعدًا بين أبناء الكنيسة الواحدة. إن حالة الشركة بين الكنيسة المارونيّة والكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ، المتميّزة بقِدَمها وفرادتها، تعطي كنيستنا دورًا مسكونيًّا خاصًا في هذه المنطقة، وهي مدعوّة إلى القيام به في سبيل إنماء الحوار اللاهوتيّ وحوار المحبّة بين تلك الكنائس والكنيسة الكاثوليكيّة. ويتعزّز هذا الدور بفضل الإرث المشترك الكبير الذي يجمع كنيستنا الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة بالكنائس الشرقيّة الأخرى. وقد تكون حالة الشركة بين الكنيسة المارونيّة والكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ، بالرغم من الشوائب التي عَلِقَت بها عبر تاريخها الطويل، نموذجًا متواضعًا لاستعادة الوحدة في الكنيسة الجامعة من خلال الشركة التامّة بين الكنائس.
- غير أنّ خبرة الشركة بين الكنيسة المارونيّة والكنيسة الرومانيّة أدخلت الموارنة، ابتداءً من القرن الخامس عشر، في مفهومٍ للكنيسة هو في الواقع مزيجٌ معقّد من نظامٍ بطريركيّ درجت عليه الكنائس الشرقيّة في الألف الأوّل، ونظامٍ رومانيّ هرميّ للكنيسة الكاثوليكيّة تطوّر بشكل آحاديّ منذ مطلع الألف الثاني. فأصبح الموارنة، كما ورد في النصّ أعلاه (عدد 25)، جزءًا من الكنيسة التي يرعاها أسقف روما، مع المحافظة على قدرٍ كبيرٍ من طقوسهم الليتورجيّة وتنظيمهم الكنسيّ. ويقدّر مجمعنا البطريركيّ النواحي الإيجابيّة العديدة التي تُزيّن تاريخ الشركة بين الكنيسة المارونيّة والكنيسة الرومانيّة، والتي أتاحت لكنيستنا تأديَة رسالتها في بيئتها بحيويّة وفعاليّة كبيرتين، من خلال انفتاحها على الغرب والإفادة من مُقدّراته العلميّة والفكريّة. وقد أسهم هذا الانفتاحُ مع الزمن في بلورة هويّة لبنان الفريدة القائمَة على التعدّدية الثقافية. غير أنّ اعتماد المفهوم الرّوماني للكنيسة قياسًا وحيدًا في ممارسة الشركة هذه، كان له، في بعض الظروف، الأثر الفاعل في إدخال ما يسمّى عادةً بـ”الليتنة” التي أصابت بعض قطاعات طقسيّة، وبخاصّة لاهوتَ الأسرار. وفي نطاق التنظيم الكنسيّ، أسهم تطبيقُ هذا المفهوم بالشكل المشار إليه في إضعاف وَحدة الكنيسة البطريركيّة من خلال الحدّ من سلطة البطريرك، رمز وحدتها.
- ولتبيان تاريخ الشركة بين الكنيسة المارونيّة والكنيسة الرومانيّة في أبعاده المختلفة، يُعوّل مجمعنا على أصحاب الاختصاص ليُراجعوا بدقّة المراحل الأساسية التي كوّنت هذا التاريخ مع إيلاء اهتمام خاص بمجمع فلورنسا (1439)، ولاسيّما نظرته إلى الوحدة الكنسيّة بين الشرق والغرب؛ وبالمجمع التريدنتي (1545-1563)، وأثره الأكيد في تأسيس المدرسة المارونيّة في روما (1584)[18]؛ وبالمجامع المارونيّة التي انعقدت برئاسة القاصدَين الرّسوليَّين، إليانو ودنديني، (1578-1579؛ 1580-1582؛ 1596)[19]؛ وبالمجمع اللبنانيّ (1736) ومسألة قبوله في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. والمعروف أنّ قوانين هذا المجمع جاءت في معظمها مقتبسة عن القوانين الإصلاحيّة في المجمع التريدنتي[20].
- وفي القرن العشرين، عرف تاريخ الشركة بين الكنيسة المارونيّة والكنيسة الرومانيّة عهدًا جديدًا منذ أن انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني في روما (1962-1965). وقد شاركت كنيستنا في أعمال هذا المجمع من خلال بطريركها وأساقفتها. ولا ريب في أنّه كان الحافز الأساسيّ في إطلاق ورشة التجديد في كنيستنا على مختلف الأصعدة، وإن تعثّرت مسيرتها بعض الشيء بسبب الحرب اللبنانيّة الأخيرة (1975-1990). ويندرج مجمعنا البطريركيّ بشكلٍ مباشر في حركة التجديد هذه وإن “بدأت أصوات كنسيّة وعلمانيّة تطالب بعقد مجمع مارونيّ جديد منذ أوائل القرن العشرين”[21]. وفي هذا السياق، تولي كنيستنا، في مسيرتها المجمعيّة هذه، اهتمامًا بالإرشاد الرسوليّ: “رجاء جديد للبنان” (1997)، الذي كلّل أعمال سينودس الأساقفة الخاص من أجل لبنان (1995) المنعقد بدعوة من قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني. وتُدرك كنيستنا أنّ هذا الإرشاد قد أرسى أُسس التجديد الكنسيّ انطلاقًا من تعاليم المجمع الفاتيكانيّ الثاني ومن التراث المشترك بين كنائسنا الشرقيّة، الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، فجاء في منطلقاته وتطلّعاته دستورًا مؤسِّسًا لرسالة كنائسنا في لبنان والعالم العربي.
- ومن مآثر المجمع الفاتيكانيّ الثاني أنّه أرسى مفهومًا لاهوتيًا للكنيسة-الشركة، هو، في جوانبه الأساسيّة، استعادةٌ لتقليد بيبليّ وآبائيّ مشترك درج عليه الشرق والغرب في الألف الأوّل. وفي هذا السياق، يحثّ مجمعنا جميع الموارنة، إكليروسًا ورهبانًا وراهبات وعلمانيّين، على التعمّق في سرّ الشركة واستجلاء مضامينه العمليّة، إن على صعيد كنيستنا البطريركيّة، أو على صعيد علاقتها بالكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ. وتحرص كنيستنا أيضًا، مع سواها من الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، على متابعة الحوار مع المراجع الرومانيّة في ضوء لاهوت الكنيسة-الشركة، لتذليل ما تبقّى من صعوبات قانونيّة تحول دون ممارسة بطاركة تلك الكنائس مَهمَّتهم الراعويّة التامّة على أبنائهم المقيمين خارج النطاق البطريركيّ الأنطاكيّ[22]. ولا ريب في أنّ متابعة الحوار هذا ضمن الكنيسة الكاثوليكيّة، له انعكاساته على مستقبل الحوار المسكونيّ بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأرثوذكسيّة. وينسجم ذلك مع مبادرة البابا يوحنّا بولس الثاني في 29 أيلول سنة 1998 إلى دعوة خمسة من بطاركة الشرق الكاثوليك، بصفة كونهم رعاةً لكنائس تشترك مع الأرثوذكسيّة بتراث لاهوتيّ وليتورجيّ وروحيّ وقانونيّ، “إلى البحث معه في الوسائل الأشدّ ملاءمةً لكي تحقّق المهمّة (البطرسيّة) خدمة المحبّة بالشكل الذي يعترف به الجميع”(عدد 4)[23].
الفصل الخامس : كنيسةٌ متجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة وفي بلاد الانتشار
- فيما يبحث مجمعنا عن هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها، تستوقفنا، بنوع خاصّ، مسألة علاقة الموارنة ببيئتِهم. وهذا الأمر يحملنا على التأمّل في الرباط العضويّ بين كنيسة الله والبيئة التي تتجسّد فيها، من دون أن تتماهى بها، ذاكرةً باستمرار أنّ ملكوت المسيح “ليس من هذا العالم” (يو 18/36). فالشعب، كلّ شعبٍ، يصبح “كنيسةً”، أيّ جماعة يدعوها الله، بيسوع المسيح وبفعل الروح القدس، بقدر ما يختبر، بالإيمان، تلك الدعوة ويصبح من ثمّ مؤتمنًا على رسالةٍ يُسندُها الله إليه. وهكذا تتجسّدُ الكنيسةُ في البيئة الإنسانيّة التي ينتمي إليها أبناؤها، فتنفح في ثقافتهم وحضارتهم الأصليّة قِيَم الإنجيل في سبيل نموّ ملكوت الله. وتؤمن الكنيسة أيضًا بأنّ “سرّ التدبير الخلاصيّ”، الذي أقامنا الله شهودًا عليه في هذا العالم، هو قبل كلّ شيء لأجل البشر، في الزمان والمكان، ولأجل خلاصهم. وكلّ ما سيأتي به هذا النصّ، والنصوص المجمعيّة الأخرى، لا بدّ من أن يجد له سبيلاً إلى حياتهم اليوميّة، فيختبروا أنّ كنيستهم هي فعلاً “سرُّ خلاصٍ”، أيّ علامةً لهذا التدبير، وواسطةً بها يتحقّق وينمو في البيئة التي دعوا إلى أن يُقيموا فيها.
- وإذا كانت الحدود القانونيّة للكنيسة المارونيّة هي النطاق البطريركيّ الأنطاكيّ الذي يضمّ اليوم شعوب منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، فقد أُعطي لجبل لبنان، ومن ثمّ للبنان في حدوده الحاليّة، وهو جزء من هذا النطاق، أن يحتضن القسم الأكبر من الموارنة، منذ أن حطّت البطريركيّة الأنطاكيّة المارونيّة رحالها فيه من القرن العاشر، حتى أيامنا[24]. غير أنّ الحضور المارونيّ لم يَعد يقتصر على النطاق البطريركيّ الأنطاكيّ، بل تعدّاه بشكل سريع ومذهل ليشمل بلدان العالم، منذ أن دفعت حركة الهجرة والتهجير بالكثيرين من الموارنة وسواهم، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى يومنا، إلى ترك مواطنهم الأصليّة والإقامة في ربوع بلدان استضافتهم، ثم ما لبثت أن مَنَحتهم حقّ المواطنيّة فيها.
- وقد أثار واقع الهجرة هذا جملة تساؤلات محوريّة حول العلاقة بين الكنيسة وبيئتها من جهة، وكيفيّة الحفاظ على وحدة الكنيسة المارونيّة في تنوّع حضورها في العالم، من جهة أخرى. وبعد مدّة طويلة من الارتباك والضياع، تعي الكنيسة المارونيّة، يومًا بعد يوم، أنّ واقعها الجديد لا بدّ من أن يقودها إلى عنصرة جديدة، إذا عرف أبناؤها وبناتها كيف يصغون معًا، مثل مريم والرسل، إلى همسات الروح الذي يجمع بينهم، ويعضدهم في إعلان البشرى في أيّ محيط أقاموا فيه، فيجدوا، بقوّة هذا الروح وعَضَده، سبلاً ملائمة لأداء رسالتهم، بإلهام من هويتهم الخاصّة، وبالأمانة لروحها، في المجتمعات الجديدة التي ينتمون إليها. ويدرك الموارنة، إكليروسًا وعلمانيين، أنّ واقع الانتشار ينال من وحدتهم إذا لم يعزّزوا إرتباطهم بكنيستهم الأمّ في النطاق الأنطاكيّ حيث تبلورت هويّتهم في عناصرها الأساسيّة. وتتجلّى وحدتهم أيضًا في المحافظة على طابعهم النسكيّ وليتورجيّتهم التي تحمل إيمان كنيستهم وروحانيّتها. وقد طرح النص المتعلّق بالكنيسة المارونيّة في انتشارها العالميّ، عددًا من الاقتراحات العمليّة، من شأنها تعزيز وحدة كنيستنا في تنوّعها. ونأمل أن تلقى هذه الاقتراحات صدًى إيجابيًّا في مسيرتنا المجمعيّة.
- وبالعودة إلى إرتباط القسم الأكبر من موارنة النطاق الأنطاكيّ بلبنان، الأرض والتراث، تتّضح لنا دعوة كنيستنا الأمّ ورسالتها التي تميّزت بها عبر تاريخها الطويل. فعلى هذه الأرض التي اتّسمت بتعدّديتها اللافتة، إن على الصعيد المسيحيّ أو على الصعيد الإسلاميّ، سعت كنيستنا المارونيّة، مع من ارتضى مشاركتها السعي نفسه، أن تكون صاحبة رسالة محورها الإنسان، أيّ إنسان، وقد صاغتْها من وحي إيمانها الرسوليّ. فكانت تلك الرسالة في معظم الأحيان انتفاضةً من أجل بناء مجتمع يؤمن بكرامة الإنسان، ويحفظ حقّه في الاختلاف الدينيّ والثقافيّ شهادة على الحريّة، ويصون حقوقه السياسيّة الأساسيّة. وقد تكلّلت تلك المسيرة، سنة 1920، بإعلان دولة لبنان الكبير التي ما لبثت أن أصبحت جمهوريّة مستقلّة سنة 1943. وقد كان للطيّب الذكر المثلّث الرحمات البطريرك الياس الحويك دور رياديّ في ذلك. ولم تشأ البطريركيّة المارونيّة لبنان يومًا “وطنًا مسيحيًّا”، بل وطنًا لجميع أبنائه، يعيش فيه المسيحيّون والمسلمون معًا على قدم المساواة، وفي احترام متبادل. ولعلّ أصدق عبارة عن هويّة لبنان الحقيقيّة هي تلك التي أطلقها قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني حين قال: “إن لبنان هو أكثر من بلد. إنّه رسالة حريّة ونموذج في التعدّديّة، للشرق كما للغرب”[25]. وليس من المغالاة أو من باب الافتخار القول إنّ للبطريركيّة المارونيّة دورًا طليعيًا في أن يكون هذا الوطن التعدّديّ رسالةً. وإذ يرتفع لبنان-الرسالة إلى هذا المستوى الانسانيّ الشامل، فإنّ مجمعَنا يحثّ جميع الموارنة على مواصلة الشهادة على هذه الرسالة في اوطانهم المختلفة، وذلك في اتحاد وثيق بكنيستهم البطريركيّة التي احتضنت هذه الرسالة، احتضان أمٍّ لطفلها، وهي ترجو له أن ينمو حتى “يبلغ القامة التي توافق كمال المسيح” (أف 4/13).
- ولكي تتعزّز رسالةُ كنيستنا المارونيّة في سياق الإنجيل، يدعو مجمعنا كلّ المؤمنين الموارنة إلى تجديد إيمانهم برساليّة الكنيسة وهذا الأمر يلزمنا جميعًا بالعودة الدائمة إلى وديعة الإيمان بسرّ الخلاص بيسوع المسيح،كما تسلّمناها من الرسل والكنيسة الأولى، فنشهد لها بأمانةٍ في البيئة التي أقامنا الله فيها. وتنبع رساليَّة الكنيسة من “سرِّ التدبير الخلاصيّ” الذي هو عمل الله الآب والابن والروح القدس، من أجلنا ومن أجل خلاصنا. فالمسيح القائم من الموت قال لتلاميذه لما تراءى لهم، على ما جاء في إنجيل يوحنّا: “السلامُ عليكم! كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضًا”. قال هذا ونفَخَ فيهم وقال لهم: “خذوا الروح القدس. مَن غفرتم لهم خطاياهم تُغفر لهم، ومن أمسكتم عليهم الغفران يُمسك عليهم” (يو 20/21-23). فانطلق التلاميذ في مهمّتهم الرسولية بعد أن نالوا، بالمسيح، الروحَ القدس، عطيّة الآب إليهم. فالروح هو “المعزّي”، “روح الحقّ” الذي “يعلّمهم كلّ شيء ويذكّرهم كلّ ما قاله لهم المسيح” (يو 14/15-16، 25؛ 16/7). ويعي المسيحيّون، بفعل عمادهم “بالماء والروح” (يو 3/5) أنَّهم، كالتلاميذ، مرسلون إلى العالم، وهم مزوّدون بقوَّة الروح، محيي الكنيسة وذاكرتها الحيّة، ليحملوا إليه بشرى الخلاص بيسوع المسيح.
- ويدرك أبناء كنيستنا المارونيّة وبناتها أن جذورهم الأنطاكيّة تشدّهم، بنوع خاصّ، إلى تلك البشرى التي احْتضنتها مدينة الله أنطاكيّة، منذ أن بشّر فيها بطرس، رأس الرسل، وبولس وبرنابا وغيرهم من الكارزين. وقد جعلوا تلك المدينة نموذجًا حيًّا لمصالحة اليهود و”الأمم”، الذين يجمع بينهم الإيمان بيسوع المسيح، ربًّا ومخلّصًا (رسل 15/22-35؛ غل 2/11-21). ويطيب لمجمعنا أن يذكّر الموارنة بأنّ اهتداء الكثيرين من أهالي لبنان وسورية إلى المسيحيّة، إبّان المرحلة الرومانيّة، قد تمّ على يد مبشّرين، بدافع غيرتهم الرساليّة، وفي طليعتهم رهبان من تلاميذ مار مارون القورُشي، ويوحنّا الذهبي الفمّ، وسمعان العمودي[26]. ويدلّ هذا الأمر على أنّ الحياة الرهبانيّة، التي هي اتّباعٌ للمسيح وتكرّس له، هي رساليّة بامتياز. وفي هذا السياق، يحثّ مجمعنا الرهبان والراهبات والعلمانيّين في الرعايا والمنظمات الكنسيّة أينما وُجدَت، على أن يواصلوا تلك الشهادة الرساليّة، من خلال تكرّسهم الكامل لخدمة الإنجيل، في ضوء الموهبة-المؤسِّسة، الخاصّة بجمعيّاتهم ورهبانيّاتهم ومنظّماتهم.
- وقد قُيِّض لكنيستنا المارونيّة، كما لسواها من الكنائس الشرقيّة، أن تشهد على وديعة الإيمان الرسوليّ وسط مجتمع دينيّ تعدّديّ، منذ أن ظهر الإسلام، في مطلع القرن السابع، وتنامى، بحيث أصبح دين الأكثريّة الساحقة لشعوب منطقة الشرق الأوسط. وبالرغم من تناقص عدد المسيحيّين في هذه البقعة من الأرض، لم يغب عن الموارنة أنّ الكنيسة، بفعل بعدها الرساليّ، ليست من أجل ذاتها. وهكذا سعت كنيستنا المارونيّة جاهدةً، بالرغم من قلّة عدد أبنائها والمعوّقات من كلّ نوع، إلى أن تظلّ حاضرة في بيئتها. فتعاوَنَت مع شركائها في المصير الواحد على إرساء أُسس المجتمع التعدّدي، وكان لبنان – الرسالة، كما جاء أعلاه (عدد 38). فلا بدّ لكنيستنا من أن تواصل تلك الرسالة وفق متطلّبات عالم اليوم. ولئن سعت كنيستنا في هذا المجمع إلى استجلاء عناصر هويّتها ودعوتها ورسالتها (الملفّ الأوّل)، وبحثت في سبل التجدّد الراعوي الذي يُصيب الأشخاص والهيكليّات والمجالات الراعويّة (الملفّ الثاني)، فلكي تكون، باسم المسيح، حاضرةً في عالم اليوم، وفاعلةً فيه. أمّا مجالات هذا الحضور فهي متنوّعةٌ ومتكاملة. ويترتّب على كلّ الموارنة، كلّ وفق موهبته، أنْ يلتزموا العمل في الشأن التربويّ والثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والإعلاميّ (نصوص الملفّ الثالث)، فيشهدون، بجرأةٍ نبويّةٍ، على البعد الرساليّ في الكنيسة، ويُسهمون في ترقّي الإنسان في مجتمعاتهم المختلفة.
- ولكي تؤدّي الكنيسة المارونيّة رسالتها تلك بروح الإنجيل، يحثُّ مجمعُنا الأساقفة ومعاونيهم على أن يسهروا، بشتّى الطرق، على تعزيز الحسّ الرساليّ عند أبنائها وبناتها. ويكون ذلك من خلال تنشئة راعوية متكاملة، تستند إلى الكتاب المقدّس، وتعاليم الكنيسة في هذه الميادين، وتراث كنيستهم، ومعرفة دقيقة للبيئة الإنسانيّة التي يتوجّهون إليها. وتَعي كنيستُنا أنّه، بقدر ما تعزّز عند أبنائها وبناتها تلك الروح الرساليّة، تسير مع المسيح إلى العُمق، وتُلقي الشباك بأمرٍ منه، فينمو ملكوت الله بوفرة (لو 5/1-11). بهذا الإيمان، يدعو مجمعنا إلى ألاّ تقتصر شهادتنا الرساليّة على البيئة الخاصّة التي ننتمي إليها، بل تتعدّاها لتشمل آفاقًا بشريّةً جديدة تفتقر إلى كلمة الإنجيل المحيية. ولا ريب في أنّ تلك الشهادة تتعمّق في الكنيسة المحليّة، بقدر ما يحمل أبناؤها وبناتها همّ “الكلّ”، فيحقّقون بالفعل ما يعيشونه أسراريًّا في كلّ احتفالٍ إفخارستيّ، حيث يَدخلون في شركة عضويّة وغير منفصلة مع المسيح، ومع القريبين والبعيدين.
- ولئن تركّز اهتمام كنيستنا على تلبية حاجات أبنائها وبناتها في النطاق الأنطاكيّ وبلاد الانتشار، فإنّها تتعزّى بتكرّس البعض من أبنائها لأعمال الرسالة خارج هذه الأنحاء، من خلال جمعيّات رساليّة غربيّة ذات طابع عالميّ. ويتطلّع مجمعُنا بعين الرضى إلى كلّ المبادرات التي تقوم بها، منذ سنين، بعض الأبرشيّات والرهبانيّات والحركات الرساليّة العِلمانيّة، التي ترسل كهنة ورهبانًا وراهبات وعلمانيّين، لفترات محدّدة، إلى بعض دول أفريقيا وآسيا والمنطقة العربيّة وغيرها، وذلك في سبيل التعاون الرسالي مع الكنائس الخاصّة القائمة فيها. ويحثّ مجمعُنا على مواصلة السير في هذا الاتجاه، بالتنسيق مع “اللجنة الأسقفيّة للتعاون الرساليّ بين الكنائس”، التابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. وفيما تشدّد كنيستنا على العلاقة العضويّة بين الانفتاح على الرسالة والتجدّد الكنسيّ، يطيب لمجمعِنا أن يورد ما جاء في هذا الشأن ضمن الإرشاد الرسوليّ: “رجاء جديد للبنان”: “وقد أعلن أيضًا كثيرٌ من آباء المجمع والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين العلمانيّين أنّ أحدَ سُبُل تجدّد الكنيسة في لبنان هو في انفتاحها على الرسالة “بين الأمم”، لتتعاون في هذا العمل مع كنائس خاصّة أخرى في شتّى أنحاء العالم. فالاندفاع في الرسالة إلى الخارج لا يسعه إلاّ أن يجدّد شباب الكنيسة وقوّتها في الداخل” (عدد 82).
- ويؤكّد هذا المجمع المبارك أنّ دعوة الكنيسة الرساليّة لا تنفصل عن دعوتها المسكونيّة. فالمسيح، ليلة آلامه، صلّى إلى أبيه من أجل تلاميذه قبل أن يُرسلهم إلى العالم ليكونوا بأجمعهم واحدًا، كما أنّه هو والآب واحد، فيؤمن العالم أنّه مرسل من لدن الله إلى الناس أجمعين (يو 17/21) و”الطريق” الذي يقود إليه (يو 14/6). فالعلاقة بين رساليّة الكنيسة ووحدتها هي أساسيّة وعضويّة بحيث تضعُف الرسالة المسيحيّة وتتقلّص إن لم تحتضِنْها كنائس الله وتلتزم بها، وهي على شركة بينها قوامها الوحدة في الإيمان الرسولي والمحبّة لله وللقريب، وهذه هي أعظم الوصايا (متى 22/34-40). وبقدر ما تكون المحبّة الأخويّة شرعة أبناء العهد الجديد بالقول والعمل، تتعمّق الشركة الكنسيّة فيما بينهم وتنمو الوحدة، فيعرفوا الله الذي هو محبّة (1 يو 4/7-8). وقد تجلّت محبّته لنا في تجسّد ابنه كفّارة عن خطايانا (1 يو 4/9-10). وإذ أقامنا الله شهودًا لتجسّد ابنه في هذه البقعة المشرقيّة وفي بلاد الانتشار، فإنّا لواثقون بأنّ شهادتنا تكون حيّةً وفاعلةً في محيطها ما دمنا خدّامًا حقيقيّين لتلك المحبّة.
- بهذا الايمان تتطلّع كنيستنا المارونيّة اليوم إلى سلسلة الانقسامات التي صدّعت كنيسة المسيح الواحدة والمتنوّعة على مثال الثالوث، في الشرق والغرب، لاسيّما في النطاق الأنطاكيّ، منذ القرن الخامس حتى أيامنا. ويشير هذا النصّ المجمعيّ إلى بعض منها (راجع أعلاه عدد 14-17؛ 29-30)[27]. وبالإيمان عينه تعترف أيضًا بأنّ تلك الانقسامات، مهما علت جدرانها، لا تنال من سرّ وحدة الكنيسة ووحدانيّـتها كما تُعلِن في قانون الإيمان النيقاويّ القسطنطينيّ: “ونؤمن بكنيسةٍ واحدة، جامعة، مقدّسة، رسوليّة”. وتؤدّي كنيستنا الشكر لله على نشوء ما يُعرف “بالحركة المسكونيّة” التي اعتبرها آباء المجمع الفاتيكانيّ الثاني “من فعل الروح القدس” (راجع القرار “في الحركة المسكونيّة”، عدد 1)[28]. ويؤكّد قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في رسالته العامّة “ليكونوا واحدًا” (1995) أن الكنيسة الكاثوليكيّة تعهّدت في المجمع المذكور أن تلتزم العمل المسكونيّ “بطريقة لا رجوع عنها” (عدد 3). وإنّ الرسالة الراعويّة الخامسة “الحركة المسكونيّة”، التي أصدرها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، سنة 1999، صدىً أمين لهذا الالتزام.
- ويَجد المؤمنون الموارنة بذور دعوتهم المسكونيّة في العناصر الأساسيّة التي تكوّن هويّتهم الكنسيّة، وقد سعى هذا النصّ إلى إبرازها في خطوطها العريضة. ويأمل مجمعنا أن يستكملوا في ما بينهم البحث الجديّ في تلك العناصر لاستجلاء مقتضياتها العمليّة على الصعيدين الرساليّ والمسكونيّ، آخذين دومًا بالاعتبار المبادئ الكاثوليكيّة للعمل المسكونيّ كما هي ظاهرةٌ في وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثاني، خاصّين منها الدستور العقائديّ: “في الكنيسة” والقرار: “في الحركة المسكونيّة” (الفصل الأوّل). وبما أنّ همّ استعادة الوحدة المنظورة للكنيسة يعني كلّ الكنيسة، رعاةً ومؤمنين، كلاّ وفق إمكاناته (راجع قرار “في الحركة المسكونيّة”، عدد 5)، يعرض مجمعنا بعض الاقتراحات والتوصيات في هذا الشأن علّها تُسهِمُ في تنظيم العمل المسكوني في كنيستِنا وتنشيطه ضمن النطاق الأنطاكيّ وفي بلاد الانتشار.
- وعلى هذا الأمل، يحثّ مجمعنا المسؤولين عن كليّات ومعاهد اللاهوت والعلوم الدينيّة على أن يولوا التنشئة المسكونيّة اهتمامًا خاصًا بحيث تُعطى الدروس اللاهوتيّة للإكليريكيين والرهبان والراهبات والعلمانيين “بروحٍ مسكونيّة”، فيتدرّبون على البحث الرصين عن الحقيقة بموضوعيّةٍ وحبٍّ للكنيسة، آخذين بالاعتبار أهمّ النتائج التي توصّلت إليها الحوارات المسكونيّة الرسميّة وغير الرسميّة، لاسيّما تلك التي تتعلّق بكنائسنا الشرقيّة. ففي تلك الكليّات والمعاهد يتمّ إعداد مَن سيتسلّمون مهمّة الرعاية في الكنيسة ونشر التعليم المسيحيّ فيها، ومَن سيُختارون أيضًا للمشاركة في لجان الحوار اللاهوتيّة المحليّة والإقليميّة والعالميّة بعد أن يكونوا قد أتمّوا تنشئتهم العلميّة[29]. في هذا السياق، يُنوّه مجمعُنا بالدور المسكونيّ المميّز الذي تقوم به رابطة كليّات ومعاهد اللاهوت في الشرق الأوسط (ATIME) التي تعمل بالتنسيق مع مجلس كنائس الشرق الأوسط على صعيد تفعيل التعاون العلميّ بين العمداء والأساتذة والطلاب. فإنّه بفضل تلك الرابطة تتحوّل تلك المؤسّسات إلى واحات بحث وحوار لتعزيز الأمور المشتركة بين الكنائس ومعالجة تلك التي ما زالت موضوع خلاف بينها، وذلك يؤول إلى بلورة رؤية مسكونيّة محليّة ومشتركة تُسهِم في تعزيز الحضور المسيحيّ في الشرق الأوسط حيث “نكون مسيحيّين معًا أو لا نكون”[30].
- ويوصي مجمعنا القيّمين على مؤسسات التنشئة اللاهوتيّة في كنيستنا متابعة العمل من أجل استعادة التراث الأنطاكيّ المشترك ليكون المصدر الأساس للتجدّد اللاهوتيّ والروحيّ والليتورجيّ لأبناء كنيستنا وبناتها في النطاق الأنطاكيّ وفي بلاد الانتشار (راجع أعلاه عدد 12-13). ولا يغيب عن بال المؤمنين الموارنة البُعد المسكونيّ الأكيد المُرتبط بهذا التجدّد كما يُشير إلى ذلك أكثر من مرّة الإرشاد الرسوليّ: رجاءٌ جديد للبنان، (عدد 42، 77، 86). فالتُراث المذكور هو الأصل الجامع بين الأنطاكيّين، يعودون إليه كما إلى الينابيع. ولا رَيبَ في أنّهم بتلك العودة يُسهمون في إثراء الفكر اللاهوتيّ، ممّا يُعزّز الحوار المسكوني على الصعيد المحليّ والإقليميّ والعالميّ بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأرثوذكسيّة والأرثوذكسيّة الشرقيّة، لما لهذا التراث من فرادة وأصالة. وإنّ هذا الأمر، بالنسبة إلى كنيستنا المارونيّة والكنائس الأنطاكيّة الشقيقة المعنيّة مباشرة بهذا الحوار والمشاركة فيه، هو خطوةٌ مباركة على طريق استعادة الشركة التامة بينها.
الخاتمة
- بهذا الايمان وعلى هذا الرجاء، يحثّ مجمعنا الموارنة، إكليروسًا ورهبانًا وراهبات وعلمانيّين، على أن يواصلوا البحث بجدّية، بكلّ الوسائل المتاحة، في هويّتهم الكنسيّة وعناصرها الأساسيّة كما عرضها هذا النص في خطوطها الكبرى. فإنه بقدر ما يولون هذا الموضوع اهتمامهم، تنجلي دعوتهم ورسالتهم في النطاق الأنطاكيّ وبلدان الانتشار، فيشهدوا بأمانة أكبر للمسيح وفق موهبة كنيستهم الخاصة، ويسهموا بنموّ ملكوته حيثما حلّوا. ويؤكّد مجمعنا، في مطلع الألف الثالث، على أنّ هويّة كنيستنا ودعوتها ورسالتها هي، على مثال الكنيسة، جسدِ المسيح، في نموّ وتفاعل وتنقية حتى تبلغ كمالها في المسيح عند نُهْيَة الزمن. فالمسيح رأس هذا الجسد وأساس هويتنا الكنسيّة، هو كما جاء في كتاب الرؤيا: “الألف والياء، والأوّل والآخر، والبداية والنهاية” (رؤ 22/13 ؛ 21/6 ؛ 1/8 ؛ 2/8). وفيما نستدعي الروح القدس ليواكب مسيرتنا المجمعيّة، نضع كنيستنا المارونيّة في حماية العذراء مريم، والدة الإله وهيكل الروح وأيقونة الكنيسة. فبشفاعتها المرجوّة، وشفاعة القدّيسين والشهداء الموارنة، وجميع الأبرار والصدّيقين، ننمو في القداسة أفرادًا وجماعات؛ وإنّه بالقداسة وحدها تبلغ كنيستنا نُضجها.
توصيات النصّ وآليات العمل
الموضوع |
التوصية |
الآليّة |
1- إحياء التراث الأنطاكيّ والسريانيّ.
|
1- ينتمي الموارنة إلى التراث الأنطاكيّ والسريانيّ، الذي تشترك فيه سائر الكنائس الأنطاكيّة وعائلة الكنائس السريانيّة والذي هو إرث للكنيسة الجامعة. لذلك يدعو المجمع إلى متابعة الإهتمام بإحياء هذا التراث في أبعاده اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة وتقديمه في حلّة جديدة تكون بمتناول الموارنة حيثما حلّوا.
|
1- أ: على الجامعات المارونيّة، وبخاصّة كلّيات اللاهوت فيها، تحتضن هذا المشروع تماشيًا مع توصيات الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان” (عدد 42، 77، 86). وبالتعاون مع الجامعات الأخرى ومع أصحاب الإختصاص في الكنائس الأنطاكيّة الأخرى، في لبنان وبلاد الانتشار، ويتمّ ذلك: أوّلاً، من خلال تحقيق علميّ لهذا التراث ونشره وترجمته؛ ثانيًا، من خلال إدراج هذا التراث في المناهج التعليميّة لكلّيات اللاهوت. 1-ب: تسعى الرهبانيّات والأبرشيّات المارونيّة أن إلى تكريس من تتوسّم فيهم الكفاءة العلميّة للتخصّص في هذا المجال. |
2- إعداد كتاب تاريخ الموارنة.
|
2- لمّا كانت معرفة التاريخ الكنسيّ بشكلٍ علميّ هي من أسس التجدّد الراعوي الأصيل، ولما كانت كنيستنا المارونيّة تفتقر حتى الآن إلى كتاب تاريخ لها تُعرض فيه الأحداث والثوابت الأساسيّة بشكلٍ يتوافق عليها الموارنة، يُوصي المجمع بالعمل الجاد على إعداد هذا الكتاب بشكلٍ علميّ ومبسّط وجذّاب يكون في متناول الموارنة في النطاق البطريركيّ ودنيا الانتشار. ويكون ذلك مقدمة لكتابة مشتركة و”مسكونيّة”، مع سائر الأنطاكيّين، لتاريخ الكرسيّ الأنطاكيّ. |
2- تبادر البطريركيّة، بالتعاون مع الجامعات المارونيّة في لبنان ومع أبرشيات الانتشار، إلى تعيين لجنة من أهل الإختصاص في التاريخ الكنسيّ بعامّة، والمارونيّ بخاصّة، مهمّتها كتابة تاريخ الموارنة ونشره في لغات عديدة.
|
3- تعزيز الشراكة في الكنيسة البطريركيّة.
|
3- في ضوء مفهوم الشراكة ولاهوت الكنيسة البطريركيّة، يدعو المجمع إلى تعزيز ممارسة المجمعيّة الأسقفيّة بين البطريرك والأساقفة من جهة، وتفعيل العلاقات المتبادلة بين الرهبانيّات المارونيّة والكرسيّ البطريركيّ والأبرشيّات من جهة أخرى.
|
3- إقامة ندوات علميّة حول لاهوت الكنيسة البطريركيّة. بالنسبة إلى المجمعيّة الأسقفيّة (راجع نصّ5). – بالنسبة إلى العلاقات بين الرهبانيّات المارونيّة والكرسيّ البطريركيّ والأبرشيّات، لا بدّ من تعزيز عمل الدائرة البطريركيّة للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات (راجع أيضًا نصّ 8). |
4- الإلتزام المسكونيّ.
|
4- نظرًا إلى أهميّة الإلتزام المسكونيّ في تعزيز الحضور المسيحيّ في لبنان والشرق الأوسط بروح الإنجيل وخدمة الإنسان، ونظرًا إلى فرادة موقع الكنيسة المارونيّة في العائلة الأنطاكيّة وفي شركتها التامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ، يوصي المجمع بتعزيز هذا الإلتزام على المستويات الروحيّة واللاهوتيّة والراعويّة والاجتماعيّة كافة.
|
4- يتجلّى هذا الإلتزام من خلال: 4-أ: العمل بتوجيهات المجلس الحبريّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين (روما)، وتفعيل دور اللجان الأسقفيّة للعلاقات المسكونيّة. 4-ب: المشاركة الفعّالة في أعمال مجلس كنائس الشرق الأوسط ونشاطاته، ورابطة كلّيات ومعاهد اللاهوت في الشرق الأوسط. 4-ج: الإسهام مع ذويّ الاختصاص في متابعة إعداد كتب التعليم المسيحيّ المسكونيّ ونشرها حيث تدعو الحاجة. 4-د: العمل مع الكنائس الأخرى على بلورة راعويّة مشتركة ولا سيّما في مجال الزيجات المختلطة بين المسيحيّين، في ضوء إتفاق الشرفة (1996)، بحيث لا يتعارض ذلك مع المبادئ الكاثوليكيّة للعمل المسكونيّ. 4-هـ: إقامة حلقات روحيّة وبيبليّة مشتركة في الرعايا وفي المنظّمات الرسوليّة. 4-و: التعاون على صعيد الشهادة الاجتماعيّة. |
5- الإلتزام الرساليّ.
|
5- لما كان البعد الرساليّ من مكوّنات إيماننا المسيحيّ، والانفتاح على الرسالة من عوامل التجدّد الكنسيّ المحليّ، يدعو المجمع إلى تعزيز المبادرات التي تقوم بها بعض الأبرشيّات والرهبانيّات والحركات الرساليّة العلمانيّة وذلك بإرسال كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيّين إلى بعض دول أفريقيا وآسيا والمنطقة العربيّة وغيرها في سبيل التعاون الرساليّ مع الكنائس الخاصّة القائمة فيها. |
5-أ: التنسيق في هذا المجال مع “اللّجنة الأسقفيّة للتعاون الرساليّ بين الكنائس”، التابعة لمجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان. 5-ب: إدخال مادة اللاهوت الرساليّ في مناهج كلّيات اللاهوت. 5-ج: تنشئة الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيّين على البعد الرساليّ في الكنيسة.
|
1. راجع “البيت غازو المارونيّ“ (1263م) 14.701 Add، الجزء الأول، قدّم له وترجمه الأباتي يوحنّا تابت، منشورات معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس، سلسلة “المصادر الليتورجيّة المارونيّة”، عدد 1، الكسليك – لبنان، 2000، ص 47.
2. راجع حياة مار مارون في كتاب تيودوريطُُس أسقف قورش، تاريخ أصفياء الله، ترجمه عن أصله اليوناني الأرشمندريت أدريانوس شكور، المطبعة البولسيّة 1987، ص 145-146. يرى بعض الباحثين في الآثار أن قلعة كالوتا في جبل سمعان التي هي على مسافة 30 كلم من مدينة حلب، من المرجّح أن تكون المكان حيث تنسّك مار مارون. ويرى هؤلاء أيضًا أنّ جثمانه وُضع في مدينة براد القريبة منها.
3. راجع رسائل رعويّة، القرن الثاني، ترجمها وقدّم لها جورج صابر، سلسلة “الأصول المسيحيّة الشرقيّة”، 1، بيروت 1972، صفحة 129.
4. نورد مقتطفات من قانون الايمان الخلقيدوني: “نعلّم بالاجماع، متّبعين الآباء القدّيسين، إننا نعترف بأنّ ربّنا يسوع المسيح هو ذات الابن الواحد، هو ذاته كامل في اللاهوت وهو ذاته كامل في الناسوت… ذات المسيح الواحد، ابن، رب، وحيد، معروف في طبيعتين، بلا اختلاط، ولا تحوّل، بلا انقسام ولا انفصال، بدون أيّ إلغاءٍ لاختلاف الطبيعتين بسبب الاتحاد…”؛ الكنيسة الكاثوليكية في وثائقها، دنتسنغر – هونرمان، الجزء الأوّل، سلسلة “الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم”، عدد 27، منشورات المكتبة البولسيّة، جونيه، 2001، ص 104-105.
5. المرجع ذاته، ص 104.
6. تضمّ هذه العائلة الأقباط، والسريان، والأرمن، والأحباش، والإريتريين، والملنكار الأرثوذكس.
7. قامت هذه الحوارات بشكل أساسيّ برعاية مجلس الكنائس العالميّ (جنيف) والمؤسّسة النمساويّة الكاثوليكيّة “من أجل الشرق” (Pro Oriente)، والمركز الحبريّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين (روما). توجد نبذة مختصرة عن هذه الحوارات والبيانات المشتركة في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحدًا (1995)، عدد 62-63.
9. عُرف السريان الأرثوذكس سابقًا باليعاقبة نسبة الى الأسقف يعقوب البرادعي (578+)، منظّم هذه الكنيسة الأنطاكيّة المناهضة لمجمع خلقيدونيا.
10. عَرَفَت هاتان الكنيستان في القرن الثامن عشر، بفعل حركة الاتحاد الناشطة مع روما، إنقسامًا داخليًا أدّى تباعًا الى نشوء كنيستي الروم الملكيين الكاثوليك (1724) والسريان الكاثوليك (1783).
11. تظهر مهمّة الاكسرخوس في القرن السادس من خلال القانون 133 للأمبراطور يوستينيانوس (527-565) والمتعلّق بحياة الرهبان والراهبات.
12. راجع حياة يوحنّا مارون في كتاب الشرح المختصر في أصل الموارنة… للبطريرك الدويهي، نشره الأب أنطوان ضو تحت عنوان أصل الموارنة، إهدن 1973.
13. هؤلاء الرهبان-الأساقفة هم في تواصلٍ مع ما كتَبَهُ تيودوريطُس القورشيّ في مطلع حياة ابراهيم الناسك، تلميذ القديس مارون، بعد ان أصبح أسقف حرّان: “وانه لا يجوز أن نهمل ذكر ابرهيم العجيب بحجّة أنّه، بعد حياته النسكيّة، جمّل الكرسيّ الأسقفيّ. بل بلا شك ولـهذا السبب نفسه يتوجّب علينا أن نذكره أكثر بكثير من غيره، لأنّه مع اضطراره الى تغيير وظيفته، لم يغيّر نمط حياته، بل حمل معه مستلزمات الحياة النسكيّة الشاقة، فجمع بين أعمال الحياة النسكيّة ومهام الأسقفيّة، فقضى حياته كلّها بالأتعاب”؛ راجع تيودوريطُس أسقف قورش، تاريخ أصفياء الله، مرجع سابق، ص 149. وفي ختام حياة إبراهيم الأسقف الناسك، يردّد أسقف قورش باختصار ما قاله في البداية (ص 152).
14. في شأن تقسيم الأبرشيات، راجع المجمع اللبنانيّ (1736)، “ذيل المجمع اللبنانيّ”، الفصل 41، “في تعيين كراسي مطارنة الموارنة وأساقفتهم وتخومها”، ترجمة المطران يوسف نجم، مطبعة الأرز – جونيه 1900، ص 180-182. راجع أيضًا ما قاله آباء المجمع عن البطريركيّة الأنطاكيّة في القسم الثالث، الفصل الرابع، العدد 8، صفحة 350-361.
15. راجع رسالة البابا اكليمنضُس الثاني عشر في تثبيت قانون الرهبان السريان الموارنة المعروفين برهبان القديس انطونيوس الكبير اللبنانيين (1732)، في ذيل المجمع اللبناني، الفصل 16، ص 44-49.
16. في ما يتعلّق بالكنائس البطريركيّة، راجع مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، الباب الرابع، قانون 55- 150؛ في ما يختص بالرهبان، راجع الباب الثاني عشر، قانون 410 – 572 (ق. 412 عن الرهبانيّات الحبريّة).
17. راجع كتاب القدّاس بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، بكركي 2005، ص 826؛ راجع أيضًا نافور مار يعقوب، ص 779.
18. العبارة الموضوعة بين مزدوجين هي عنوان التعليم الصادر عن “مجمع مؤسّسات الحياة المكرّسة وجمعيات الحياة الرسوليّة” (19 أيّار 2002)، ويتعلّق بالالتزام المتجدّد في الحياة المكرّسة في الألف الثالث.
19. في شأن المدرسة المارونيّة في روما راجع كتاب:
Nasser GEMAYEL, Les échanges culturels entre les Maronites et l’Europe, 2 tomes, Beyrouth, 1984.
20. في شأن المجامع المارونيّة، راجع كتاب:
Joseph FEGHALI, Histoire du droit de l’Eglise maronite, t. 1, Ed. Letouzey et Ané, Paris, 1962.
21. في شأن المجمع اللبنانيّ، راجع كتاب:
Elias ATALLAH, Le synode libanais de 1736, 2 tomes, co-Ed. CERO–Letouzey et Ané, Antélias (Liban) – Paris, 2001.
22. راجع رسالة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، في المجمع البطريركيّ المارونيّ، 2003، ص 11.
23. راجع في هذا المجال نص الوثيقة باللغة الفرنسيّة التي وقّعها بطاركة الشرق الكاثوليك السبعة، وأرسلوها إلى المراجع الرومانيّة، وهي بعنوان: “العلاقات بين الكنائس البطريركيّة الكاثوليكيّة والكرسي الرسولي الروماني”، في كتاب الأب إيلي حدّاد، المجمعيّة الأسقفيّة في الكنائس الشرقيّة (خبرة كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك)“، منشورات المعهد العالي للعلوم الدينيّة، جامعة القديس يوسف، بيروت 2003، ص 257-273.
24. راجع خطاب البابا يوحنّا بولس الثاني في : La documentation catholique, n° 2192 (1998), p. 951-953
25. في شأن انتقال البطريركيّة إلى لبنان، راجع اسطفانس الدويهي، تاريخ الأزمنة، تحقيق الأباتي بطرس فهد، سلسلة “الخزانة التاريخيّة”، 3، منشورات لحد خاطر، بيروت، ص 50-51 (من دون تاريخ). في قولنا هذا لا نعني أن حضور الموارنة في لبنان يعود حصرًا إلى هذا التاريخ. فلبنان الساحليّ، أو ما كان يُعرف بفينيقيا الساحليّة، دَخَلَت المسيحيّة إليه منذ العصر الرسولي، في حين اهتدى أهل جبل لبنان من الوثنيّة إلى المسيحيّة في القرنين الرابع والخامس، على ما يبدو، بفعل حملات تبشيريّة بتدبير وتوجيه ابراهيم القُورشي (وهو من تلاميذ القديس مارون)، والقديسَين يوحنّا الذهبيّ الفم (407+) وسمعان العموديّ (457+). ومن الطبيعيّ أن يكون المسيحيّون في ساحل لبنان وجبله قد انقسموا كغيرهم من المسيحيّين في النطاق الأنطاكيّ بين “يعاقبة” (سريان أرثوذكس) و”ملكيين” (روم أرثوذكس) وموارنة، بفعل النِزَاعات اللاهوتيّة والتجاذبات الكنسيّة بين القرنين الخامس والثامن.
26. راجع البابا يوحنّا بولس الثاني، رسالة رسوليّة إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة حول الوضع في لبنان (1989)، عدد 6.
27. لمواكبة هذا العمل التبشيريّ، راجع كتاب:
Youhanna SADER, Croix et symboles dans l’art maronite antique, coll. “Héritage et patrimoine”, n. 1, Ed. Dar Sader, Beyrouth, Liban, 1989, p. 235-253 (conversion des libanais par l’intercession de St Syméon le Stylite) ; p. 261-265 (Jean Chrysostome et la mission de Phénicie).
28. للمزيد من المعلومات عن تاريخ الانقسامات، يُمكن مراجعة الرسالة الراعويّة الخامسة: ليكونوا واحدًا، لمجلس البطاركة الكاثوليك (فصح 1999)، الفصل الأوّل: “غنى التنوّع في تراثاتنا ومأساة انقساماتنا”، عدد 7-22؛ خاصة عدد 9-16.
29. نشأت “الحركة المسكونيّة” في شكلها المعاصر وسط بعض الإرساليّات البروتستانتيّة في أفريقيا وآسيا، بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتركّزت تلك الحركة في بداياتها على حلّ النزاعات اللاهوتيّة وغير اللاهوتيّة القائمة بين تلك الإرساليّات والتي كانت حجر عثرةٍ للكثيرين من المهتدين الجدد في تلك الأصقاع، وكأن المسيح قد تجزّأ (1 قور 1/10-17). وبهذا تأكيد الترابط الوثيق بين الرسالة المسيحيّة والوحدة الكنسيّة.
30. في شأن التنشئة المسكونيّة، راجع: المجلس الحبريّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين، دليل لتطبيق مبادئ الحركة المسكونيّة وقواعدها (1993)، القسم الثالث، عدد 55-91.
31. العبارة التي هي بين مزدوجين مأخوذة من الرسالة الراعويّة المشتركة التي أصدرها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك تحت عنوان: الحضور المسيحيّ في الشرق، شهادةٌ ورسالة (1992)، عدد 39؛ راجع أيضًا القسم الخامس من هذه الرسالة: “حضورٌ مسكونيّ”، عدد 39-44.