المقدّمة
أولاً: ماهيّة الثقافة وأهميّتها
- أصبح من المتعارف عليه أنّ بُعد الحياة الإنسانيّة الثقافيّ هو عنصر جوهريّ في تطوّر المجتمعات البشريّة وتفاعلاتها المتبادلة. والكنيسة تدرك تمامًا أنّ الشخص البشريّ لا يرتقي إلى مستوى الإنسانيّة إلاّ عن طريق الثقافة[1]، كما أنّ وجود الإيمان المسيحيّ بذاته يرتبط بالثقافات المختلفة التي تعبّر عنه. لذلك يقول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني: “كلّ إيمان لا يتحوّل إلى ثقافة ليس بالإيمان المقبول تمامًا والمعقول كليًّا والمعاش بأمانة”[2]. والمجمع الفاتيكانيّ الثاني كان قد أولى هذا الموضوع كلّ الأهميّة حتى قيل فيه إنّه كان، بانعقاده ومضمونه، ثورة ثقافيّة.
- يحدّد المجمع المذكور الثقافة على أنّها “كلّ ما يستخدمه الإنسان لصقل إمكاناته المتعدّدة وتنميتها، مجتهدًا في إخضاع الكون بالمعرفة والعمل، مؤنسنًا الحياة الاجتماعيّة، والحياة العيليّة ومُجمل الحياة المدنيّة بفضل تقدّم الأخلاق والشرائع، مترجمًا وناشرًا وحافظًا في مؤلّفاته، عبر الأزمنة، الاختبارات الروحيّة الكبيرة ونزعات الإنسان العظمى، حتى تُستخدم لتقدُّم أكبر عدد من أعضاء الجنس البشريّ كلّه”[3]. فالثقافة تشمل مجمل نماذج السلوك والفكر والإحساس لدى الإنسان في علاقته المثلّثة بالطبيعة والإنسان والله، ممّا يعني أيضًا أنّ الثقافة ليست أمرًا جامدًا ومرجعًا ثابتًا للهويّة الكنسيّة التي تحملها، بل هي حركةٌ دائمة التطوّر عبر العصور والمجتمعات المختلفة، مساعِدةً بذلك الشخص البشريّ على الإرتقاء المستمرّ إلى أنسنة ذاته في إطار جماعته الثقافيّة الخاصّة، وهي قوّةٌ للخلق والإبداع الذي يُنعش الإنسانيّة العامّة.
ثانيًا: الكنيسة المارونيّة وحركة الانثقاف
- أمّا كنيستنا المارونيّة، فتعي أنّ تفاعلها مع الثقافات المختلفة، عبر مسارها التاريخيّ الطويل، جعل رسالتها في عيش بشارة المسيح ونشرها تتحقّق بطريقة فريدة، ورسم لها موقعًا مميّزًا في قلب الكنيسة الجامعة. فالكيان الكنسيّ المارونيّ غير منفصل عن واقع حضوره في العالم، حتىّ يمكننا القول إنَّ وجودَ الكنيسة المارونيّة واستمرارَها عبر التاريخ هما نتيجةٌ لهذه المسيرة الانثقافيّة الخاصّة بها، والّتي أحيت لديها وعيًا لذاتها المتمايزة. لذلك تنعم الكنيسة المارونيّة بتراث ثقافيّ خاصّ وتقاليد كنسيّة وليتورجيّة ولاهوتيّة وروحيّة وتنظيميّة مميّزة[4]. كما تساهم في رسالة تطوّر وتقدّم ثقافيّ خدمةً للمجتمع بتعدّد فئاته وجماعاته.
- وحركة التفاعل هذه، بين الإنجيل والثقافة في إطار كنيسة خاصّة، تُعرَفُ اليوم بالانثقاف. وتعلّم الكنيسةُ أنّه بالانثقاف “تُجسِّد الكنيسةُ الإنجيل في مختلف الثقافات، وفي الوقت نفسه، تُدخل الشعوبَ مع ثقافاتها في جماعتها الخاصّة، فتنقل إليها قيَمَها، آخذة الجيّدَ من ثقافاتها، مجدّدةً إيّاه من الداخل”[5]. وبذلك تغتني الكنيسة الجامعة بفضل الانثقاف الحاصل في الكنائس المحليّة، بتعابير وقيم جديدة في مختلف قطاعات الحياة المسيحيّة، مثل التبشير بالإنجيل، والعبادة، وعلم اللاهوت، وأعمال المحبّة، فتعرف سرّ المسيح وتُعبِّر عنه بطريقة أفضل، وتندفع هي نفسها إلى التجدّد بإستمرار[6].
- ولا بدَّ هنا من التنويه بأنَّ حركة الانثقاف في إطار كنيستنا المارونيّة خاصّة، والكنائس الشرقيّة عامّة، تتميّز عنها في سائر الكنائس بكونها ملازمة للبشارة الأولى ونشأة الكنيسة، إذ انطلقت مع بداية المسيحيّة وبدون المرور بثقافة أخرى غريبة عن جماعاتها. فالشرق المسيحيّ، يقول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، “له دور فريد ومميّز، كونه مهد الكنيسة الأساسيّ”[7]. كما أنّ الكنائس الشرقيّة أظهرت عبر التاريخ مقدرةً مميّزةً على مواصلة حركة الانثقاف هذه، ما جعلها تُقَدَّمُ كأنموذَجٍ لسائر الكنائس في عيشها الناجح للتفاعل المتبادل بين الإنجيل والحضارات الإنسانيّة، وبين الإيمان والثقافة[8]. ويوجّه المجمع الفاتيكانيّ الثاني التقدير والثناء الذي يحقّ لهذا التراث الكنسيّ ويعتبره، “تراثَ كنيسة المسيح بأسرها”. ويعلن أنّه من الواجب المحافظةُ عليه في أسسه الفاعلة، إن من ناحية العودة إلى الجذور وإحياء التقليد المؤسِّس، أو من ناحية تشجيع حركة رسوليّة متجدّدة تتجاوب مع مقتضيات العصر والإطار الثقافيّ الحاليّ في هذه الكنائس[9].
ثالثًا: الانثقاف المارونيّ بين الماضي والحاضر والمستقبل
- وبما أنّ الثقافة هي حقيقة ديناميّة دائمة التطوّر، فقد أصبحت حركة الانثقاف الكنسيّ عمليّة مستمرّة متجدّدة. فتطوّر الثقافات يظهر أنّ الطبيعة الإنسانيّة تسمو عليها وتمنع الإنسان من أن يصبح سجينًا داخلها[10]، كما أنّ عنصر الانفتاح والشموليّة هذا يسمح بتفاعل الثقافات في ما بينها والاغتناء المتبادل. لكن، لكي لا يصبح الانفتاح انحلالاً للذات المتمايزة، وَجب أن تتمتّع حركةُ الانثقاف بعاملٍ موحِّد لها وبقدرة على النقد والانتقاء.
- إنّ معرفة تاريخ المسار الثقافيّ المارونيّ بمحطّاته المختلفة وحقباته المتعدّدة، كما يعرضه الفصل الأوّل من النصّ، لهو أمر أساسيّ ومصيريّ في المحافظة على وحدة كنيستنا واستمراريّتها. وهذه المعرفة تقتضي كشف النقاب عن التراث المارونيّ في مصادره وأصوله ومختلف أبعاده، والعمل للمحافظة عليه وإحيائه، لكي يكون حقًّا الشاهد والمحافظ على هويّتنا. هذا ما يعرض له الفصل الثاني من النصّ. والتأصّل في التراث لا يتعارض مع الانفتاح، بل يساهم بتوجيهه نحو هدفه الأسمى. إنّ الانثقاف الصحيح يجعل الإيمان قادرًا “على أن ينفذ إلى كلّ ثقافة، ليطهِّرها ويخصبها ويثريها ويخوّلها أن تمتدّ على قياس محبّة المسيح التي لا قياس لها”[11]. فمِثل كلّ نتاجٍ بشريّ، تبقى الثقافة، مطبوعة بخطيئة الإنسان وأنانيّته المنحرفة عن تصميم الله الخلاصيّ، وبحاجة إلى أن “تُنقّى وتُرفع وتُكمّل”[12]. في هذا الإطار يدعو الإرشاد الرسوليّ رجاء جديد للبنان الكنيسة إلى التنبّه لثقافات اليوم، مميِّزة فيها الزرع الصالح من الزؤان[13]. لذلك يعرض الفصل الثالث التحدّيات الثقافيّة التي تواجه الكنيسة المارونيّة في عالمنا المعاصر، وكيفيّة استيعابها وتوجيه مسارها ضمن ظروف حضورنا الكنسيّ الجديدة في أطرٍ حضاريّة مختلفة. وينتهي هذا النصّ بفصل رابع وأخير يقدّم فيه آفاق العمل الثقافيّ المارونيّ الجديدة، داعيًا جميع أبناء الكنيسة المارونيّة، أينما حلّوا، للالتزام بورشة بشارة الثقافات.
الفصل الأوّل : مسار الكنيسة المارونيّة التاريخيّ وديناميّة الانثقاف
أوّلاً: قراءة تاريخيّة للألف الأوّل
1. البعد السريانيّ
- نشأت الكنيسة المارونيّة ونمت في إطار ثقافيّ غلب عليه الطابع الآراميّ – السريانيّ. فبالرغم من التنوّع الحضاريّ والتعدّد الثقافيّ الذي كان سائدًا بأنطاكية وجوارها في أثناء قرون المسيحيّة الأولى، تميّزت الجماعة المارونيّة منذ بداياتها عن المجتمع الروميّ البيزنطيّ. فالموارنة، وهم عمومًا من سكّان الجبال والأرياف، وقد اعتنقوا إيمان رهبان مار مارون وعقيدتهم، سواء في سورية أو في لبنان، تميّزوا بثقافتهم عن المسيحيّين الآخرين في المدن الكبرى التي طبعتها الحضارة اليونانيّة، من دون أن يعني ذلك انقطاعهم عن هذه الثقافة، التي كانت، في قرون المسيحيّة الأولى، أداة أساسيّة للتعبير عن الإيمان المسيحيّ، لاسيّما في المجامع المسكونيّة.
- والبعد السريانيّ ظاهر خصوصًا في الكتب الطقسيّة التي تكوّن مرجعًا أساسيًّا لتراثنا المارونيّ الأصيل، إذ يوفِّر هذا التراث مكانة أساسيّة للآباء السريان وفي مقدِّمتهم مار أفرام. ويُركّز معلّم الكنيسة الجامعة القديس أفرام، الذي لم يتأثّر بالفلسفة اليونانيّة، على أهميّة المادّة وعلى كرامة الجسد والخليقة بأسرها. لذلك يعلّم مار أفرام أنّ الله المحجوب، بفعل ألوهيّته التي تفوق إدراك الإنسان، هو ظاهر في مخلوقاته، لأنّ كلّ مصنوعاته إنّما هي على صورته، كمثاله، أيّ على صورة الابن المتجسِّد. وما التاريخ والكون سوى مساحة للّقاء بين الله والبشر، فيعرفوه من خلال كلّ شيء وينالوا الحياة (يو 17/3).
- ورغم المدّ الإسلاميّ لاحقًا، وانتشار اللغة العربيّة، حافظ الموارنة على السريانيّة، لغة وثقافة. وظلّ الموارنة يستعملون السريانيّة حتى أمسنا القريب في حياتهم اليوميّة، وحتى يومنا هذا، في الليتورجيا. وقد استعملوا أيضًا الكرشونيّ، مستعينين بالأبجديّة السريانيّة لكتابة العربيّة. كذلك، في حين أنّ الأنغام في الكنائس السريانيّة الأخرى تلوّنت بموسيقى الشعوب المحيطة، حافظ الموارنة على الأنغام السريانيّة الأصيلة. كما أنّ احتفاظ الموارنة بإنجيل رابولا السريانيّ، الموضوع في العام 586، والمحافظة عليه لفترة طويلة من الزمن، تُظهر ارتباطهم وتعلّقهم بهذه الثقافة.
2. البعد الأنطاكيّ الخلقيدونيّ
- لا شكّ في أنّ تعدّد المدارس اللاهوتيّة في أولى القرون المسيحيّة، والصراع الفكريّ واللاهوتيّ الذي دار خاصّة بين مدرستَي الإسكندريّة وأنطاكية، عزّز لدى المؤمنين هذا الشعور بالتمايز بحسب انتماءاتهم الثقافيّة المختلفة. فاتِّباع الموارنة للفكر الآبائيّ الأنطاكيّ الذي يُشدِّد على ناسوت المسيح، وانخراطهم بالصراع العقائديّ عقب مجمع خلقيدونية (451)، قوّى شعورهم بخصوصيّتهم الدينيّة والثقافيّة ورغبتهم في المحافظة عليها.
- والعقيدة الخلقيدونيّة التي تشبّث بها الموارنة ودافعوا عنها تحوّلت لديهم إلى ديناميّة صيرورة، حيث يحقّق الفرد والجماعة مسيحيّتهما بقدر ما يسموان بالإنسانيّة. إذ إنّ الاشتراك الإلهيّ الفعليّ في الطبيعة الإنسانيّة، يمكّن الإنسان من الاشتراك في الطبيعة الإلهيّة، وذلك عبر تحقيق حياته الإنسانيّة بكلّ أبعادها. فالنسك، الذي يطبع روحانيّة كنيستنا، ليس رفضًا لما في الحياة من أبعاد جسديّة ومادّيّة، بل، على العكس، هو إشراك هذه الأبعاد في مسيرة الإنسان الروحيّة، عبر توجيهها نحو خالقها.
- وبفضل العقيدة الخلقيدونيّة اقتنع المارونيّ أنّه من خلال عمله اليوميّ العاديّ، وعلاقته بأخيه الإنسان والطبيعة يمكنه أن يرتقي إلى ملاقاة ربّه وخالقه، إذ إنّه باتّحاد الله بالإنسان اتّحد الخالق بخليقته. لذلك أصبح عمل الإنسان المارونيّ في الأرض جزءًا من صلاته وتعبيرًا عن شوقه إلى تحقيق لقائه بمخلّصه. فحوّل الجبال الوعرة إلى جنائن مثمرة، وامتزجت الترانيم بأصوات المعاول[14]. نذكر في هذا المجال أعياد العذراء مريم القديمة، ذات الأبعاد الزراعيّة، كمثل عيد سيّدة الزروع (15 كانون الثاني)؛ عيد سيّدة الحَصاد (15 أيّار)؛ عيد سيّدة الكرم (15 آب). ويظهر هذا البعد في القدّاس الإلهيّ عندما يختم الكاهن صلاة التذكارات قائلاً: “فيتمجّد بنا وبكلّ شيء اسمك المبارك مع اسم ربِّنا يسوع المسيح وروحك الحيّ القدّوس الآن وللأبد”[15].
3. البعد اللبنانيّ
- والدين المسيحيّ الذي كان قد دخل منذ بداياته أرض لبنان، وتمركز خاصّة في مدنه الساحليّة، شهد حملة انتشار جديدة مع اهتداء سكّان الجبل اللبنانيّ إلى المسيحيّة على يد مار سمعان العموديّ، وبفضل حملة التبشير التي قام بها تلامذة مار مارون، وعلى رأسهم إبراهيم القورشيّ. وحافظ هذا الشعب على خصائصه وطقوسه وعاداته المميّزة، التي لم تتعارض مع إيمانه الجديد. فيمكننا القول بأنّه، في نطاق جبل لبنان، كانت الثقافة الكنعانيّة – الفينيقيّة مرجعًا مكمّلاً للبعد الآراميّ – السريانيّ في نشأة وتطوّر الثقافة المارونيّة بمختلف أبعادها. فالمعابد الكثيرة التي تحوّلت إلى كنائس، وبعضها لا يزال قائمًا حتى اليوم، تشهد على هذا التواصل الثقافيّ بين الحقبات التاريخيّة المختلفة[16]. فلا شكّ في أنّ ارتباط الموارنة بأرض لبنان الجبليّة، سواء أمن سكّانه الأصليّين كانوا، أم لاجئين إليه هربًا من الاضطهاد، وتفاعلهم المتواصل مع ثوابتها ومتغيّراتها، جعلاهم يتعلّقون بها حتى التقديس، وجعلوا منها مقرًّا لبطريركيّتهم التي هي رمز وحدتهم وخصوصيّتهم الكنسيّة، كما أنّ هذه الأرض طبعت ثقافة أبنائها بالنشاط والعزيمة، والكرم والضيافة، والتشبّث بالحريّة.
ثانيًا: التفاعل مع العالم العربيّ والإسلاميّ
1. اللقاء الأوّل بالثقافة العربيّة
- استطاع الموارنة المحافظة على خصوصيّتهم الروحيّة والثقافيّة في ظلّ خضوع المنطقة للحكم الإسلاميّ، الذي دام أكثر من ألف سنة في مناطق وجودهم وبالأخصّ في الجبل اللبنانيّ الذي جعلهم بمنأى نسبيّ عن تدخّلات المحتلّ وعاداته الجديدة. وانتشرت في هذه الحقبة التاريخيّة مدارس نقل المخطوطات والترجمة، وأشهرها مدرسة مار جرجس بقرقاشا، حيث خُطّ الـ “رِيش قُربان”، أحد أهمّ المخطوطات المارونيّة[17].
- ورغم تجاذبات المرحلة الأولى، لم يتردّد مسيحيّو المنطقة عامّة، عندما سمحت لهم الفرصة، من ولوج الثقافة العربيّة، بل من تبنّيها، بدون أن يكون ذلك تنكّرًا للإرث الثقافيّ الخاصّ بهم. فالتفاعل الكبير بين الحضارة العربيّة والمفكّرين المسيحيّين في العصر العبّاسيّ، جعل من هؤلاء روّاد ما سُمّي بالنهضة العربيّة الأولى بين القرنين التاسع والحادي عشر، خاصّة بفضل حركة ترجمة التراث اليونانيّ إلى اللغة العربيّة، مرورًا بالسريانيّة[18]. وكانت عاصمة الحكم العبّاسي بغداد محور الحركة الثقافيّة هذه، ما قد يُفسِّر انتقال العديد من العلماء إليها.
- ورغم بُعد الموارنة الجغرافيّ عن عاصمة الثقافة العربيّة آنذاك، لم يكونوا على هامش هذه الحركة الثقافيّة. فالمخطوطات المارونيّة تشهد على استعمال الموارنة، في هذه الحقبة، الخطّين السريانيّ والعربيّ. وكتاب الهدى[19] الذي تُرجِم إلى العربيّة العام 1059، هو شاهد على تبنّي الموارنة اللغة العربيّة باكرًا واستعمالها للتعبير عن شؤونهم الجماعيّة الروحيّة والثقافيّة، كما أنّ استعمال الخطّ السريانيّ لكتابة اللغة العربيّة، وهو ما يُعرف بالكرشونيّ، يُعبِّر عن هذه الرغبة المزدوجة لدى الموارنة في الحفاظ على التراث الخاصّ والانفتاح على المستجدّات الثقافيّة. ولعلّ أبلغ ما قيل في هذا الموضوع كلام بطاركة الشرق الكاثوليك، الذي يعني مسيحيّي الشرق عامّة، وينطبق أيضًا على تفاعل كنيستنا المارونيّة مع الثقافة العربيّة: “إنّ تفاعل كنائسنا الحضاريّ لم يتوقّف في وقت من الأوقات، بل احتفظ بحيويّة متجدّدة عبر الأجيال والمراحل التاريخيّة المتعاقبة التي مرّت بها منطقتنا. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الحيويّة الثقافيّة التي امتازت بها كنائسنا بعد الفتح الإسلاميّ، حيث لم تقف الكنائس الشرقيّة المختلفة متفرّجة، سجينة ماضٍ ولّى، بل راحت تعمل جاهدة للتعبير عن ذاتها، وفق الظروف الثقافيّة الجديدة. فأدخلت اللغة العربيّة تدريجيًّا في مجالات حياتها الطقسيّة والفكريّة واليوميّة. وبهذا توصّلت كنائسنا إلى اجتياز تلك العتبة التاريخيّة بنجاح، بالرغم من جميع الصعوبات والعقبات”[20].
2. الموارنة والنهضة العربيّة
- أمّا الدور الأساسيّ الذي قام به الموارنة في تاريخ الثقافة العربيّة، فكان ابتداءً من القرن السابع عشر، مع المطران جرمانوس فرحات (1670-1732) والخوري بطرس التولاويّ (1657-1746) وغيرهما، ممّن أطلقوا بوادر وأسس نهضة شاملة، حافظت على الثقافة العربيّة وأحيتها وأعادت إليها مكانتها الحضاريّة المميّزة في وجه حملة التتريك المنتشرة آنذاك. والتزام الموارنة اللغة العربيّة وتجديدها ساهم مساهمةً أساسيّة في تحقيق النهضة العربيّة الثانية، إبّان القرن التاسع عشر.
3. مرحلة الانثقاف العربيّ
- نتيجة لتفاعل الكنيسة المارونيّة هذا مع الثقافة العربيّة، أصبحت هذه الأخيرة أحد عناصر تراثنا الكنسيّ. فتُرجمت إلى العربيّة الصلوات الطقسيّة والأناشيد البيعيّة. وكتبت بهذه اللغة الدراسات والمقالات اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة لتكوّن نواة فكر مسيحيّ عربيّ، لا بدّ من كشف النقاب عنه وتطويره وإبرازه، كما يطلب الإرشاد الرسوليّ رجاء جديد للبنان، عبر “مواصلة السعي لتقويم الكتابات المسيحيّة العربيّة على صعيد اللاهوت والروحانيّة والليتورجيا والثقافة عامّة، وكلّها كنوز أَثْرت التقليد الأنطاكيّ منذ القرن السابع”[21]. ويبقى التحدّي أن لا يُلغي هذا التفاعل أصالة وفرادة الإرث الثقافيّ المارونيّ بعمقه التاريخيّ وتعدّد ينابيعه. فالثقافة المارونيّة هي منفتحةٌ عربيًّا، ومتأصّلةٌ في جذورها السريانيّة والخلقيدونيّة واللبنانيّة، وتتفاعل مع سائر الثقافات التي تلتقيها في علاقتها بالغرب وانتشارها العالميّ.
ثالثًا: التفاعل مع العالم الغربيّ
1. وحدة الإيمان مع الغرب المسيحيّ
- إلتقى الموارنة بالثقافة الغربيّة باكرًا بفضل تعلّقهم بوحدتهم الإيمانيّة مع الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة. وساهم وصول الفرنجة مع الحملات الصليبيّة إلى الشرق في انفتاح الموارنة على أبعاد ثقافيّة جديدة في الإيمان المسيحيّ نفسه. ولا شكّ في أنّ هذه المرحلة تركت أثرًا في نفوس الموارنة وفي معالم ثقافتهم الحضاريّة. وبذلك تابع الموارنة تحقيق التواصل الحضاريّ بين ثقافتهم المسيحيّة المشرقيّة الخاصّة والثقافة الغربيّة المسيحيّة. لكنّ هذا التواصل الحضاريّ والتفاعل الثقافّي لم يأخذ كلّ أبعاده إلاّ ابتداءً من القرن السادس عشر، مع تأسيس المدرسة المارونيّة في روما (1584)، وانفتاح لبنان على الغرب في ظلّ حكم الأمراء المعنيّين، ووصول الإرساليّات الكاثوليكيّة إلى الشرق وإنشائها العديد من المدارس المهمّة في مختلف المناطق.
2. المدرسة المارونيّة في روما
- مارست المدرسة المارونيّة في روما، منذ نشأتها، دورًا رياديًّا كبيرًا في مختلف الحقول، أخصّها الدين والعلم والسياسة والتربية. فأغنت هذه المدرسة الغرب والشرق معًا بإنجازات العلماء الذين أنجبتهم، إذ أسهم هؤلاء في تعريف الشرق بالتراث الثقافيّ الغربيّ، وفي حضّ الأوروبيّين على الاستشراق. ومن أبرز أعلام المدرسة المارونيّة: جبرائيل الصهيونيّ (1577-1648)، الذي أصبح رئيسًا لدائرة اللغات الشرقيّة في المعهد الملكيّ في باريس، وأدخل الحروف الشرقيّة إلى أوروبا صبًّا وطباعة. ويوسف السمعانيّ (1687-1768) الذي عُيّن حافظًا للمكتبة الفاتيكانيّة، كما كلّفه البابا ترؤّس المجمع اللبنانيّ الخاصّ بالكنيسة المارونيّة المنعقد العام 1736 في دير سيّدة اللويزة. وكان لهذا المجمع أثر كبير في حياة الكنيسة المارونيّة الثقافيّة، إذ أقرّ فتح مدارس في القرى والمدن، وإلزام الأهل إرسال أولادهم إليها لاقتباس العلم. ويوسف اسطفان (1729-1793) الذي أسّس مدرسة عين ورقة، أُمّ المدارس المسيحيّة في الشرق.
3. بين الانفتاح والأصالة
- رغم الوحدة الإيمانيّة مع الغرب، ووعي الموارنة حاجتهم وحاجة مجتمعاتهم الشرقيّة إلى نتاج النهضة الحضاريّة والعلوم الحديثة في الغرب، أدركوا أيضًا خطر هيمنة هذه الثقافة الجديدة على تراثهم وهويّتهم الثقافيّة الأصيلة. لهذا، شهدت المرحلة الممتدّة بين القرن السادس عشر والقرن العشرين تجاذبًا متواصلاً بين إغراءات الحداثة وضرورة المحافظة على الأصالة. ترافق ذلك مع تأثير مماثل في تقاليد وطقوس وهيكليّة الكنيسة المارونيّة من قبل الكنيسة اللاتينيّة. ففقد بذلك الموارنة بعضًا من تراثهم الثقافيّ والروحيّ. ولكنّهم استطاعوا في المقابل، بفضل إدخالهم الطباعة إلى لبنان باكرًا (1585)، المحافظة على هذا التراث ونشره. كما أنّ انفتاحهم على الغرب وإتقانهم لغّاته العديدة فتَحَ لهم ولبلادهم نافذة على الحداثة ومفاعيلها الثقافيّة المختلفة، بما فيها العلوم الحديثة وتقنيّاتها.
الفصل الثاني : الإبداع الثقافيّ المارونيّ ونتاجه واستمراريّته
أوّلاً: التراث المارونيّ
1. التراث ذاكرة الجماعة
- التراث هو ما ينتجه شعبٌ ما عبر الزمن في إطاره الجغرافيّ الثابت. إنّه نتاج مادّيّ وفكريّ وروحيّ يحمل في جوهره كلّ ما تميّز به هذا الشعب عن سائر الشعوب والجماعات المعاصرة له. ويكوّن التراث هويّة الجماعة الحضاريّة، إذ يُعرِّف عنها بصفاتها وخصائصها. وهو ذاكرتها لأنّه يشهد بمعالمه العديدة على عمقها التاريخيّ بمراحله المختلفة. وهو ضمانة لاستمراريّة هذه الجماعة إذ يُجسِّد وحدتها عبر تاريخها وانغراسها في بيئتها ووعيها لذاتيّتها. يشمل التراث إذًا كلَّ أشكال “الآثار والممتلكات الثقافيّة” من أبنية وفنّ هندسيّ خاصّ ورسم ونحت وموسيقى، إلى جانب الكتب والوثائق التاريخيّة والمخطوطات وسواها من المؤلّفات الأدبيّة، والعادات والتقاليد الشعبيّة، والمزارات والرموز والشعائر الدينيّة.
2. لبنان أرض مقدّسة
- إنّ انثقاف الكنيسة المارونيّة في محيطاتها الثقافيّة المتنوّعة عبر التاريخ أدّى إلى تكوين تراث خاصّ بها من الضرورة اكتشافه والمحافظة عليه. ويجدر التنويه بأنّ هذا التراث المارونيّ هو مُتأصِّل في التراث الدينيّ والمسيحيّ الذي طبع به لبنان وجعل منه “أرضًا مقدّسة وأرض قداسة”[22]. لهذا يُعلن الإرشاد الرسوليّ رجاء جديد للبنان، أنّ المسيحيّة ما لبثت منذ بداياتها أن “أصبحت عنصرًا جوهريًّا من ثقافة المنطقة، وبنوع خاصّ الأرض اللبنانيّة”[23]. فلبنان هو أحد بلدان الكتاب المقدّس: في نصوصه ذكر متكرّر لأرزه الذي استُخدم لبناء هياكل العبادة، ولرجاله الذي بذلوا فيها جهدَهم وفنّهم (1 مل 5/15-32). وفيها أيضًا للبنان أصداء خالدة، اعتبرها شارحو الكتاب المقدّس أنّها تشيد خصوصًا بجمال الكنيسة وبهاء العذراء مريم : “كلّك جميلة يا عروستي، ولا عيب فيك. هلمّي معي من لبنان، أيتها العروس، معي من لبنان” (نش 4/7-8).
- ولكنّ ترابه تقدّس خصوصًا بتجوال الربّ في نواحي صور وصيدا، وإشادته بالكنعانيّة مثنيًا على إيمانها الكبير (متى 15/21-28 ومر 7/24-30)، ومعيدًا بذلك مأثرة الأنبياء الذين بشّروا فيه (1 مل 17/7-24). وترك لنا التقليد الكنسيّ معالم كثيرة تُعبِّر عن هذه المرحلة، كما لا بدّ من دراسة واكتشاف وإبراز جميع المعالم التي ما زالت مبهمة أو ضائعة. كذلك تركت لنا القرون الأولى المسيحيّة آثارًا بالغة الأهميّة، مثل كنيسة الأسقف باولينوس في صور التي قد تكون أوّل كاتدرائيّة في العالم، وقد ألقى خطبة افتتاحها وتكريسها، العام 314، المؤرّخ الكنسيّ الشهير أوسابيوس. وهناك العديد من الكنائس الأخرى الغنيّة بالفسيفساء[24] والرموز المسيحيّة المحليّة، وهي تعود إلى هذه الحقبة الأولى من المسيحيّة في لبنان.
3. معالم التراث المارونيّ
- بالإضافة إلى ما ذُكر في الفصل الأوّل من هذا النصّ عن ركائز الثقافة المارونيّة بأبعادها السريانيّة والإنطاكيّة واللبنانيّة، والتي تُعتبر جزءًا لا يتجزّأ من التراث الكنسيّ، ببعده الثقافيّ والروحيّ، والفكريّ، يتجلّى التراث المارونيّ الخاصّ أيضًا بمعالم طبيعيّة وهندسيّة وفنيّة مختلفة. يحظى في هذا المجال وادي قاديشا المقدّس، بما يحتوي من جمال طبيعيّ، وأديرة ومناسك، وجنائن وبساتين، وصور جدرانيّة، وتراث رهبانيّ ونسكيّ متواصل، وعمق للتاريخ المارونيّ، ونفحة من قداسة شعبه، بدور مميّز وبالغ الأهميّة. لذلك يصلح هذا المكان لأن يصبح محجًّا لجميع الموارنة في لبنان والشرق والانتشار ورمزًا لثبات كنيستهم ووحدتها [25]. ولا بدّ من التذكير أنّ منظّمة الأونيسكو قد أعلنت هذا الوادي جزءًا من التراث العالميّ.
- وتؤلِّف المراكز البطريركيّة العديدة أيضًا معالم أساسيّة من التراث المارونيّ يجب الاهتمام بها. ونذكر مراكز الحجّ للقدّيسين شربل ورفقا ونعمة الله، في أديارهم وضياعهم. ويُضَمّ إلى هذه اللائحة العديد من الكنائس القديمة[26] التي بُني معظمها على أنقاض معابد وثنيّة فتشهد لصوابيّة هذا القول: “ما من بلد في العالم كهذا البلد، يصحّ فيه القول إنّ البشر تعاقبوا منذ البدء على الصلاة في الأمكنة الواحدة ذاتها”[27]. وفي ذلك دلالة على انغراس جذور المارونيّة عميقًا في الأرض اللبنانيّة.
- ويشمل هذا التراث أيضًا، في أهمّ معالمه، الصور الجدرانيّة في وادي قنّوبين وبحديدات وفي المعابد الصخريّة[28]، وأيقونة السيّدة العذراء في إيليج. ولا ننسى الملابس البيعيّة والأواني والمفروشات الكنسيّة والمخطوطات العديدة المنتشرة في مكتبات لبنان وخارجه، وبالأخصّ محفوظات المكتبة البطريركيّة في بكركي، والمؤلّفات والكتب القديمة والحديثة التي تتناول على نحوٍ أو آخر شؤون الثقافة المارونيّة. يضاف إلى ذلك ما ينتج عن الجماعات المارونيّة في عالم الانتشار من نتاج ثقافيّ، على صعيد الفكر والفنّ والعمران، ويُعبّر بطريقة مميّزة عن الهويّة الثقافيّة المارونيّة. وما نذكره هنا ليس بحصريّ، إذ يشمل التراث أيضًا العديد من التقاليد الشعبيّة كالزجل مثلاً، الذي استطاع ابن القلاعيّ أن ينشر من خلاله الثقافة الغربيّة الحديثة بطريقة سهلة المنال.
ثانيًا: الفنّ المارونيّ
1. محاولات لفنّ مارونيّ حديث
- الفنّ جزء من التراث، وقد ذكرنا في ما تقدّم بعضًا من آثاره. وتشهد كنيستنا حاليًّا نهضة واسعة تهدف إلى إحياء الفنّ المارونيّ إن كان من ناحية الموسيقى والأناشيد الكنسيّة، أو من ناحية الرسم التشكيليّ والإيقونوغرافيّ. ففي الربع الأخير من القرن العشرين، انطلقت في الكنيسة المارونيّة عدّة مبادرات لترجمة الكتب الطقسيّة، وخاصّةً الأناشيد السريانيّة، مبتغية الأمانة للأصل وتأوين النصوص تأوينًا مناسبًا. فساهمت هذه الحركة ولا تزال في إبراز الألحان المارونيّة المُتأصِّلة في التراث السريانيّ.
- أمّا الفنّ بمعناه التشكيليّ المعاصر فقد ظهر لدى الموارنة تدريجيًّا في العصور الحديثة، إذ يذكر البطريرك الدويهي في تاريخه إسم الياس الشدياق الحصرونيّ الذي رسم كنيسة مار عبدا في بكفيّا (1587). وفي القرن التاسع عشر، ظهر الرعيل الأوّل من الرسّامين الموارنة الذين درسوا الفنّ في إيطاليا وعادوا إلى الوطن، فتركوا في الكنائس عددًا وافرًا من صور القدّيسين والقدّيسات[29]. ثمّ ظهر في القرن العشرين الرعيل الثاني الذي درس في باريس وترك في الكنائس المارونيّة رسومًا ونحوتات عديدة[30]. وبرز من بين هؤلاء خاصّة اسم صليبا الدويهي الذي تميّز برسوماته في كنيسة الديمان البطريركيّة المجسَّدة بأسلوب كلاسيكيّ – انطباعيّ. برزت مع أعمال هذا الفنّان رغبة الوصول إلى مثال جديد من الفنّ الكنسيّ، يتحلّى بطابع مارونيّ صرف. يظهر ذلك في أعماله كالرسوم والزجاج الملوّن في العديد من الكنائس المارونيّة في الولايات المتّحدة. واستمرّ صليبا الدويهي في هذا الخطّ، فرسم كنيسة القدّيس شربل في عنّايا بالزجاج الملوّن على النموذج الذي كان قد بدأه في كنيسة مار يوحنّا زغرتا.
- وتزامنًا مع حركة التجدّد الليتورجيّ، ظهرت في الكنيسة المارونيّة حاجات ليتورجيّة أخرى غير تزيين الكنائس بالرسوم. فكان من الضروريّ أن تُصْنع، على غرار ما في الكنائس الشرقيّة الأخرى، أيقونات للأزمنة الطقسيّة بديلة عن الصور التي أخذها الموارنة عن الكنيسة اللاتينيّة. ولمواجهة هذه الحاجة، قامت مبادرات عديدة أيضًا، مستندة في هذا العمل إلى المراجع السريانيّة الأساسيّة كإنجيل رابولا وعشرات الأناجيل المزيّنة بالمنمنمات والمحفوظة في مكتبات أوروبا وفي أديار السريان الشرقيّين والغربيّين وأيقونة سيّدة إيليج. ومع ما تقدِّمه الكنيسة المارونيّة من تقدير وتشجيع للعاملين في هذا المجال، فإنّها تواكب أيضًا الفنّ بأشكاله الجديدة التي تُناسب معاصرينا والتي تساعد إنسان اليوم على الارتقاء إلى الله.
ثالثًا: المحافظة على التراث وضرورة إحيائه
1. التراث الحيّ ضمانة لاستمراريّة الجماعة
- التراث هو ملك عامّ لا يحقّ لأيٍّ كان التصرّف به وكأنّه ملكيّة خاصّة، بل من الضروريّ الاهتمام به والحفاظ عليه بالوسائل العلميّة الرصينة، خدمة للجماعة والبشريّة جمعاء. أمّا إهماله وتخريبه فيعني اقتلاع الجماعة المعنيّة من جذورها، ما يعرّضها إلى خطر الذوبان السريع أو التغرّب عن بيئتها التاريخيّة والحضاريّة. وفي المقابل، تعطي العناية بالتراث مقوّمات الصمود والاستمراريّة في التاريخ والمجتمع. وعمليّة المحافظة على تراثنا المارونيّ وإحيائه تقتضي عدّة مبادرات عمليّة ضروريّة وطارئة بمعظمها.
2. مبادرات مُلِحَّة
- يبدأ الأمر بتشكيل هيئة بطريركيّة تُعنى بجمع المعلومات وإحصاء المعالم التراثيّة ووضع جدول بحسب أولويّة الحاجة إلى إنقاذ أو ترميم. ويتطلّب هذا الأمر تخصيص أشخاص وتفرّغهم للعمل في هذا المجال. وتعمل الهيئة المذكورة، بالتعاون مع “لجنة ممتلكات الكنيسة الثقافيّة” التابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، والهيئات الوطنيّة والعالميّة المماثلة، للاهتمام بهذا الموضوع بالوسائل العلميّة المناسبة كتبويب المخطوطات وإنشاء المكتبات المتخصِّصة ونشر الدراسات الآيلة إلى إظهار خصائص هذا التراث في مختلف أبعاده الفكريّة والفنيّة والهندسيّة وغيرها، وترميم الآثار المارونيّة وإبراز أهميتّها التاريخيّة والروحيّة وإحياء دورها الكنسيّ. فلا بدّ من البدء بتأسيس متحف مارونيّ يُجمَع فيه كلّ ما يمكن أن يمثّل هذا التراث أو يعبّر. كما يقتضي أن تضع الهيئة البطريركيّة المذكورة معايير علميّة لترميم أو لبناء الكنائس المارونيّة.
- وللجامعات المارونيّة دور أساسيّ في هذا المجال من ناحية البحث العلميّ والتعريف بهذه الثروة الثقافيّة وحثّ الأجيال الصاعدة على التواصل من خلالها، مع عمق جماعتهم الكنسيّة التاريخيّ. في هذا الإطار، لا بدّ أيضًا من دراسة نقديّة لمرحلة الحرب الأخيرة في لبنان بغية تنقية الذاكرة. فمسيرة المصالحة مع الذات والآخرين تقتضي أن تبقى الذاكرة التاريخيّة شاهدة للخطأ الذي ارتُكب ولجسامة نتائجه على الجميع.
- وبالرغم من صعوبات النشر وتسويق الكتاب في العديد من البلدان، إنّه لمن بالغ الأهميّة تشجيع الكتّاب والمؤلّفين الموارنة على نشر دراساتهم وأبحاثهم في عدّة لغات. قد يتطلّب ذلك تقوية دُوْر النشر الكنسيّة الموجودة، وربّما ربطها بإطار قادر على الحضور الفاعل في النطاق العالميّ. ويمكن أن يترافق هذا المشروع مع تأسيس مكتبة مارونيّة مركزيّة تضمّ نسخة عن كلّ المؤلفات الصادرة لمؤلّفين موارنة، أو عن دار نشر مارونيّة، أو ذات اهتمام مارونيّ.
3. السياحة الثقافيّة والدينيّة
- ومن بين وسائل المحافظة على التراث أيضًا، تشجيع السياحة الثقافيّة والدينيّة إلى الأماكن التي تحمل جزءًا كثيفًا من تاريخنا الكنسيّ[31]. ولا بدّ في ذلك من إعطاء الأولويّة إلى وادي قاديشا المقدّس وكلّ ما يتضمّنه من معالم طبيعيّة وكنسيّة. كما يمكن تحقيق مسارات مختلفة تمرّ مثلاً بالمراكز البطريركيّة، أو بمزارات القدّيسين الموارنة، أو بالكنائس المارونيّة القديمة، مع التشديد على الجنوب اللبنانيّ كأرض مقدّسة زارها يسوع المسيح بنفسه. ويجب أيضًا أن يتوسّع إطار هذه المسارات ليشمل مناطق وجود هذا التراث المسيحيّ والمارونيّ في سورية وتركيا.
- بهدف تشجيع هذا النوع من العلاقة بتراث الموارنة الكنسيّ والثقافيّ، يمكن الكنيسة أن تُنشِئ مكتبًا يهتمّ بتنظيم مثل هذه النشاطات وعرضها على موارنة الانتشار لما يُقدِّم لهم ذلك من تسهيلات عمليّة، ويشجّعهم على التعرّف إلى جذور إيمانهم وانتمائهم الكنسيّ. وقد يسمح ذلك بخلق فرص عمل لأدلاّء متخصّصين بالتراث المسيحيّ، قادرين على تأمين خدمة ثقافيّة مرموقة للسيّاح مرتبطة بشهادة صادقة وحيّة للإيمان. لا بدّ أيضًا من تشجيع موارنة المنطقة على دخول حركة اكتشاف التراث المارونيّ هذه، في لبنان وسورية.
- ويمكن عندها أن يُستفاد من زيارات الحجّ هذه وجَعْلها تتخطّى البعد السياحيّ أو التقويّ المنفرد، ويتمّ تفعيل عمليّة اختلاط الموارنة في مثل هذه المناسبات وتبادل الزيارات في ما بينهم، ممّا يعزّز روح الأخوّة بين أبناء الكنيسة الواحدة. إنّ هذا الأمر يمكن، لأهميّته البالغة، أن يُصبح التزامًا راعويًّا أساسيًّا، فيدخل في برنامج كهنة الرعايا الراعويّ، كما في برامج الأبرشيّات والمؤسّسات الرهبانيّة والكنسيّة والمنظّمات العلمانيّة.
الفصل الثالث : الكنيسة المارونيّة أمام تحدّيات العالم المعاصر الثقافيّة
أوّلاً: تحدّيات الحداثة
1. الحداثة وحركة العلمنة
- إنّ الاهتمام بالتراث لا يمكنه أن يحجب عنّا ضرورة التواصل مع الحاضر بما يحمل من أبعاد وتحدّيات ثقافيّة جديدة. وعالمنا اليوم هو عالم حديث ومُعَولمَ في آن. فالحداثة (modernité) ليست مجرّد فكرة أو مفهوم نظريّ، بل هي ظاهرة حضاريّة توالت مجرياتها عبر مئات السنين. وهي تشهد على “ولادة ثقافة جديدة محورها الإنسان”[32]، ثقافة تطاول مختلف جوانب الحياة الإنسانيّة: العلوم والفلسفة والسياسة والاقتصاد والمجتمع والدين والدولة.
- فبالتعارض مع السابق، وَضع الإنسان الحديث مسافة بينه وبين التقليد، ممّا أتاح له أن يُنشئ ذاكرة جديدة تاريخيّة ولغويّة وتفسيريّة مبنيّة على إخضاع كلّ ما هو موروث ومتعارف عليه إلى النقد الفكريّ والعلميّ. ودفع ذلك إلى الفصل بين مختلف أبعاد الوجود الجماعيّ والفرديّ، وإلى جعل الحياة الاجتماعيّة مستقلّة عن سيطرة السلطة الدينيّة، وإلى حصر الدين في المجال الخاصّ بدون أن يكون له تأثير في مجريات الحياة العامّة. ويُعرف ذلك بحركة “العلمنة” (sécularisation). أمّا “العلمانية” (laïcité) فهي التعبير على الصعيد السياسيّ عن حركة العلمنة الشاملة النازعة إلى الحدّ من طموح الدين إلى الشموليّة. ويعني ذلك فصل الدين عن الدولة. وتُقِرّ الكنيسة الكاثوليكيّة بشرعيّة تلك السيادة التي تدّعيها الثقافة لذاتها، شرط أن لا ينتهي ذلك إلى نظرة أرضيّة محضة إلى الإنسان معادية بذلك للديانة[33]. وقد أكّد المجمع الفاتيكانيّ الثاني أنّه بسبب هذه الحركة، تحوّلت أوضاع الإنسان اجتماعيًّا وثقافيًّا تحوّلاً جذريًّا[34]، بحيث لم تعد الحداثة مرتبطة بالقارّة الأوروبيّة فقط، بل عمّت الشعوب كافّة.
2. الانثقاف المارونيّ الحديث وتحدّياته
- وجاء انفتاح الكنيسة المارونيّة في القرون الأخيرة على العالم الغربيّ ليضعها في علاقة مباشرة بالحداثة ومسارها الثقافيّ الخاصّ بها، فاتّخذت من هذا الأمر موقفًا إصلاحيًّا توفيقيًّا، أي موقفًا يرفض أن يختار بين التراث والحداثة، بل يجمع بين تراثها الشرقيّ واستيعاب الثقافة الغربيّة الحديثة. ولكنّ ذلك لم يمنع من استمرار بعض أعضائها في التمسّك بالموقف التقليديّ، كما لم يمنع بعضًا آخر من اعتماد الموقف العصريّ الجذريّ الداعي إلى التخلّي عن الماضي والتمسّك بالعقلانيّة الحديثة في طابعها العلميّ والتقنيّ والجدليّ والنقديّ. وقد تجلّت هذه النـزعة عند فريق منهم في الدعوة إلى العصرنة (modernisme)، وفي اعتناق بعضهم الفكر المادّيّ، والتخلّي عن القيم والمبادئ الأخلاقيّة والاجتماعيّة الأساسيّة في الجماعة.
- ولا شكّ في أنّ الشبيبة هي الفئة الأشدّ تفاعلاً مع بُعد الحياة الثقافيّة الجديد هذا. فلكونها في الخطوط الأماميّة بحركة المثاقفة هذه، تستطيع القيام بدور أساسيّ في تثمير الحداثة كنسيًّا، كما أنّها قد تعاني أحيانًا الهوّة الموجودة بين بعض التقاليد والأفكار والهيكليّات داخل الجسم الكنسيّ وإختباراتها الإنسانيّة والثقافيّة الحديثة والجديدة، فينـزع بعض منها إلى الابتعاد عن جماعته المؤمنة لعدم تمكّنه من إيجاد التناغم والتوازن بين اختباره الثقافيّ وحياته الروحيّة. لذلك لا تزال الحداثة تحدّيًا واقعيًّا للكنيسة المارونيّة لا يُمكن التغاضي عنه.
3. التحرّر من الروح الطائفيّة
- يتجلّى لنا اليوم هذا التحدّي بشكل واضح في مسألة الطائفيّة وموقعها من الجسم الكنسيّ. لقد عبّر بطاركة الشرق الكاثوليك عن هذا الموضوع بحكمة كبيرة وإيجاز عندما قالوا: “لقد أدّت الطائفة عبر تاريخنا الكنسيّ وظيفة إيجابيّة في محافظتها على التقليد الكنسيّ، كما وعلى الحضارة الإنسانيّة والقوميّة الأساسيّة لكلّ كنيسة من كنائسنا. إلاّ أنّ سلبيّات كثيرة تسرّبت إلى واقع الطائفة، وذلك بسبب سطحيّة في الإيمان بصورة عامّة، أو بسبب عوامل اجتماعيّة ضاغطة خنقت المفهوم الكنسيّ ضمن الإطار الطائفيّ. مما أدّى إلى ظهور الروح الطائفيّة، وهي عبارة عن السلبيّات المتولّدة التي تحرِّف حياتنا الكنسيّة، وأهمّها الانغلاق على الذات واعتلال الصلة بالآخر المنتمي إلى طائفة أخرى أو إلى ديانة أخرى”[35]. ويعترف البطاركة بأنّ الروح الطائفيّة هي تحريف خطير لمفهوم الدين ونقض صريح لمفهوم الكنيسة. كما أنّها تهتمّ بمظاهر الشعائر الدينيّة أكثر من اهتمامها بروحها، فتجعل منها سجنًا يقيّد المؤمنين بماضٍ بعيد غريب عن الحياة الحاضرة، بدل أن يطوّرها لتكون طاقة حضور وتجدّد مستمرّ[36].
- وبما أنّ العصرنة الجذريّة لا تُشكِّل جوابًا مناسبًا عن أزمة الطائفيّة، ولا يُنتظر من الطائفيّة أن تكون رادعًا حقيقيًّا للحداثة المتطرّفة، فلا بدّ لكنيستنا المارونيّة من استكمال مسيرتها في التفاعل مع مقتضيات الثقافة الحديثة التي قد تساعدها على التحرّر من شوائب الطائفيّة ورواسبها في القول والفعل. فيقتضي ذلك التحرّر من كلّ أشكال التعصّب الدينيّ ونبذ الانطواء على الذات من ناحية، والانفتاح على حركة نقديّة ذاتيّة متواصلة من ناحية أخرى. وقد يساعد هذا المسار أيضًا في تحديث الهيكليّات والإدارة داخل الكنيسة، والمشاركة في المسؤوليّات بروح علميّة وفق الكفايات والمواهب المتنوّعة.
4. الحريّة أساس الثقافة الحديثة ورسالة الموارنة
- والحداثة التي تُخضِع التقاليد الموروثة للعقلانيّة النقديّة هي قاعدة للتقدّم المتراكم في النشاط الثقافيّ. لكنّ الشرط الأساسيّ لذلك يبقى الحريّة، حريّة الفرد في اختيار نمط عيشه وفي التفكير والتعبير والنشر. والموارنة، عبر تاريخهم الطويل، التصقوا التصاقًا وثيقًا بهذه الميزة كأساس للشخص البشريّ وكرامته وشرط للوجود الثقافيّ الحقيقيّ. وما زالوا اليوم يحملون هذه الرسالة المقدّسة في الدفاع عن الحريّة والمناضلة للحفاظ عليها، إذ إنّها تبقى قيمة سريعة العطب. وهم يقومون بذلك، لا دفاعًا عن الذات أو بعض المكتسبات، بل من أجل الجميع إيمانًا منهم أنّ ذلك جزء لا يتجزّأ من رسالتهم الثقافيّة والروحيّة. فالثقافة تموت بانتفاء الحريّة، ولا يبقى منها سوى مظاهر خارجيّة دون مستوى الكرامة الإنسانيّة. ونختصر في ما يلي هذه الأخطار بثلاثة أساسيّة.
5. مجابهة الأخطار المحدقة بالحريّة من الخارج والداخل
- الخطر الأوّل، وهو الأكثر ظهورًا، يأتي من الخارج، أي من الضغوط السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة التي يُمكن أن تُفرض على الموارنة وسواهم من المواطنين من قبل أنظمة غير عادلة أو إرادات مسؤولة تسعى إلى تحجيم حضورهم الثقافيّ. لذلك يجب أن يستمرّ الدفاع عن الحريّة ويتعمّق ويتشعّب في إطار الحركة الثقافيّة المارونيّة في عالم اليوم.
- ويأتي الخطر الثاني من إحدى النتائج السلبيّة التي ترافق الحداثة في عصرنا، ألا وهو الفكر الاستهلاكيّ. فتنامي قدرة الفرد الاقتصاديّة والشرائيّة، مع تزايد تنوّع السلع التجاريّة والثقافيّة، غالبًا ما يكون غطاءً خادعًا لتقلّص الحريّة الفرديّة، إذ تصبح قدرة الفرد على الاختيار محصورةً بنوع السلعة التي يشعر وكأنّه ملزم باقتنائها، وليس بمدى صوابيّة هذا الموقف ومعناه. وهنا أيضًا تجد الكنيسة المارونيّة نفسها مسؤولة عن مساعدة أبنائها على عدم الانجراف في هذا التيّار الاستهلاكيّ الذي يُحجّم سعادة الإنسان بمستوى قدرته الشرائيّة، كما يُطْلب إليها المساهمة في تأمين المستوى الاجتماعيّ اللائق بالإنسان من خلال تربية سليمة للوعي العامّ والارادات الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
- أمّا الخطر الثالث، فقد يأتي من الداخل، أي من الضغط الذي يمكن أن تمارسه البنية الكنسيّة أو الجماعيّة أو العائليّة على الفرد. فهذا الضغط، مع ما يرافقه من تشديد على التقاليد والعادات الموروثة، يمكن أن يقوم حاجزًا أمام الفرد في تحقيق نموّه الشخصيّ داخل جماعته الكنسيّة والاجتماعيّة، تحقيقًا لا يذوّب فرادته ويستفيد من المواهب الخاصّة التي يحملها كعضو مميّز في جسد المسيح السرّيّ. وهنا أيضًا، تقتضي الحداثة أن تنفتح الرسالة الثقافيّة المارونيّة على هذا البعد الأساسيّ في المدافعة عن الحريّة الفرديّة، وتخطّي كلّ روحٍ تناهضها على الصعد كافّة.
ثانيًا: تحدّيات العولمة
1. ظاهرة العولمة وتحديدها الثقافيّ
- العولمة ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا الحديثة والثقافة والاجتماع والسلوك ويتحدّد فيها انتماء الإنسان إلى الكون كلّه في ما يتخطّى حدود الدول السياسيّة. إنّها بالمعنى التطبيقيّ زيادة الارتباط بين المجتمعات البشريّة من خلال عمليّات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيّات الإنتاج والأشخاص والمعلومات والثقافات. بهذا المعنى تطرح العولمة، بصفتها ظاهرةً كونيّة، رؤيةً جديدة للثقافة وللهويّة. على أنّ للعولمة وجهين: سلبيّ وإيجابيّ. وتكون العولمة سيّئة إذا أتت مرادفة للتماثليّة والتجانسيّة، وسيطرة قانون السوق على نحو يتجاهل الثقافة الإنسانيّة التي يقوم جوهرها على التلاقي حول المبادئ الأخلاقيّة. ويكون استخدامها جيّدًا إذا كان ما يتمّ تقاسمه وتداوله هو المعلومات والمعرفة والتقدّم وفهم الآخر ومشاركة القيم والثروات. بالتالي، إنّ الردّ على هذه الظاهرة لا يقوم على التقوقع والانعزال الثقافيّ، بل على الاستفادة من كلّ ما تُقدِّمه العولمة من انفتاح وغنى، للتنمية الذاتيّة ونشر البشارة المسيحيّة والقيم التي تقوم عليها الثقافة المارونيّة.
2. الكنيسة المارونيّة في إطار العولمة
- هناك حدّان للتعاطي مع ظاهرة العولمة. يكمن الحدّ الأوّل في التمسّك بالخصوصيّة الثقافيّة ومقاومة كلّ اندماج يلغي الذات، ورَفض كلّ تبعيّة تلغي الإرادة المستقلّة والقدرة على النقد والمقاومة، وهما أساسيّان للثبات والتمسّك بالهويّة. أمّا الحدّ الثاني، فيتجلّى في استخدام العولمة كإمكانيّة جاهزة ومتوافرة للحصول على المعلومات والمعرفة وتحقيق التقدّم وفهم الآخر والمشاركة في حوار القيم وتلاقي الثقافات.
- هذا الحوار الثقافيّ لا ينحصر بأبناء الكنيسة المارونيّة، ولكن عليهم، على الصعيد العامّ، أن يضعوا أنفسهم في صلبه. أمّا على الصعيد المارونيّ الداخليّ، فعلى الموارنة، وقد أصبحوا منتشرين في بقاع الأرض كافّة يحتكّون ويتفاعلون ويتثاقفون مع ثقافات عديدة ومتنوّعة، أن يجعلوا من الحوار وتبادل الخبرات الثقافيّة عاملاً أساسيًّا في المحافظة على هويّتهم ووحدتهم الجماعيّة.
- وعليه، لا بدّ من تأسيس هيئة مارونيّة تُعنى بتنظيم التعاون والتبادل على مستوى الطاقات البشريّة، مع إعطاء عنصر الشباب الأولويّة، بين الأبرشيّات المارونيّة في الانتشار من جهة وأبرشيّات لبنان والشرق من جهة أخرى. فيكون ذلك للشاب أو للصبيّة عن طريق السفر وقضاء فترة من الزمن (عدّة أشهر أو سنة) في إحدى الأبرشيّات أو المؤسّسات الكنسيّة، والعمل في إحدى القطاعات المتوافرة لخدمة الجماعة. يؤمّن له ذلك فرصة للتعرّف على إخوة له، وعيش خبرة رسوليّة وإنسانيّة مهمّة. وعلى هذا التعاون بين الموارنة أن يحصل في الاتّجاهين، بين الشرق والغرب.
ثالثًا: تحدّيات الانتشار والتنوّع الثقافيّ
1. عيش الوحدة في التنوّع
- أدّى انتشار الموارنة الواسع في الكثير من أنحاء العالم إلى نشوء واقع ثقافيّ جديد، وهو نتيجة لتفاعل الموارنة، في هويّتهم وسلوكهم وثقافتهم، مع واقع ثقافات المجتمعات الجديدة التي يعيشون فيها. خلقت هذه المسألة لهم وللكنيسة إشكاليّة تتمثّل في القدرة على الاحتفاظ بحدّ معيّن من ثقافتهم المارونيّة في بعدها السريانيّ الإنطاكيّ اللبنانيّ، مع تبنّيهم المُحقّ لثقافتهم الجديدة النابعة من أوضاع بلدان الانتشار، البعيدة عن أنطاكية وعن لبنان في آن. فأيّ شيء يبقى من المارونيّة إذا فقدت وجدانها الروحيّ الأنطاكيّ وبعدها اللبنانيّ ؟
- إنّ في الإعلان العالميّ للتنوّع الثقافيّ، الصادر عن الأونيسكو، ما يساعد في الإجابة عن هذه الإشكاليّة الخاصّة بالكنيسة المارونيّة. فيقول الإعلان إنّ حقوق الإنسان هي ضمان للتنوّع الثقافيّ وخاصّة لحقوق الأقليّات. والتعدّديّة الثقافيّة في الإطار الديمقراطيّ هي الجواب السياسيّ المناسب عن واقع التنوّع الثقافيّ. ذلك بأنّ التنوّع الثقافيّ هو تراث مشترك للإنسانيّة، ومصدر للتبادل والتجديد والإبداع داخل الأوطان. وهذه المبادئ تدفع الكنيسة المارونيّة إلى الإيمان بأن تعدّد انتماءات أبنائها الوطنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة المحليّة ليس بحاجز أمام تحقيق وحدتها الكنسيّة والثقافيّة، بل قد يكون حافزًا للتجدّد والإبداع. كما أنّ تمسّك الموارنة بخصوصيّتهم الثقافيّة ليس على الإطلاق حاجزًا أمام التزامهم الوطنيّ المسؤول وانسجامهم مع سائر المواطنين، في أيّ بلد كان. وهذا يُؤكِّد أنّه من حقّ الموارنة، لا بل من واجبهم، التمسّك بخصوصيّتهم الثقافيّة والمطالبة بالاعتراف بها واحترامها ضمن التعدّديّة الثقافيّة أينما وجدوا، في لبنان أو بلدان المشرق أو عالم الانتشار.
2. أدوات الحضور والتفاعل الثقافيّ
- نجد في “الصحافة المهجريّة” و”الأدب المهجريّ” خير مثال على أهميّة المحافظة على الخصوصيّة الثقافيّة ضمن التعدّديّة والغنى في التفاعل الثقافيّ المتبادل، إذ إنّ عددًا من الأدباء والكتّاب اعتنوا بترجمة ونقل كثير من العادات والتقاليد وحكايات الشرق إلى مجتمعاتهم الغربيّة الجديدة. ونشأت صحافة مهجريّة ناشطة في بلدان الانتشار، هدفت من جهة إلى خلق تواصل بين المنتشرين والوطن الأمّ، ومن جهة أخرى إلى نَقْل أخبار الشرق وتراثه إلى الغرب. يُضاف إلى ذلك حركة ترجمة الكتب الليتورجيّة والتراث السريانيّ المارونيّ إلى اللغات المتعدّدة. وبالرغم من أنّ هذه الحركة كانت تُعنى على نحوٍ خاص بخدمة الموارنة المنتشرين، فإنّها لقيت أيضًا إقبالاً من غير الموارنة الذين اهتمّوا بالانفتاح على الخصوصيّة المارونيّة، والاستفادة منها لحياتهم الثقافيّة والروحيّة. وفي هذا الإطار لا يمكننا إلاّ الاعتراف بأنّ غياب مراكز الأبحاث والدراسات والكراسي الجامعيّة المارونيّة في الغرب، يُؤثِّر حتمًا في توازن التبادل الثقافيّ مع بلدان الانتشار. وقد يكون إنشاء أكاديميّة مارونيّة عالميّة واحدة، لها فروع في مختلف البلدان ذات الكثافة المارونيّة، ومرتبطة بمراكز الأبحاث الجامعيّة في لبنان، استجابةً لهذه الحاجة المُلِحَّة.
3. التبادل الثقافيّ بين النطاق البطريركيّ والانتشار
- والتبادل الثقافيّ المارونيّ الذي يشمل حركة التواصل والتفاعل بين موارنة لبنان والنطاق البطريركيّ من جهة، وموارنة الانتشار من جهة أخرى، له مقتضياته الخاصّة. هذا يعني أن تظلّ الكنيسة المارونيّة تُغني أبناءها في الانتشار بما لديها من التقاليد الثقافيّة السريانيّة الإنطاكيّة اللبنانيّة، وأن تغتني من أبنائها المنتشرين بالتجارب الثقافيّة والإنسانيّة الجديدة في بلدانهم. كما عليها أن تسعى باستمرار لإقامة حوار بين المجالين، إذ إنّ في هذا التواصل المثمر تمتينًا لعلاقات أبنائها بها بعضهم بعض، وازدهارًا للقدرات الإبداعيّة بفعل صون تنوّع الثقافات المثمر.
- ويُسأل هنا عن دور اللغة في تحقيق أو تفكيك هذه الوحدة الكنسيّة بتنوّعها. فموارنة الشرق يتكلّمون العربيّة بالإضافة إلى كونهم في غالبيّتهم فرنكفونيّون. أمّا لدى موارنة الانتشار فتتعدّد اللغات المستعملة وأهمّها البرتغاليّة والإنكليزيّة والإسبانيّة. هل هذا التباين اللغويّ عثرة للتفاعل والتوحّد؟ وهل يجب اختيار لغة تكون مشتركة بين أبناء الكنيسة المارونيّة؟ من الضروريّ أوّلاً الحفاظ على اللغة السريانيّة مرجعًا أساسيًّا للتراث الروحيّ والليتورجيّ. وإذا كان من مبادرات لتعليم اللغة العربيّة في بلاد الانتشار، وجب تشجيعها. والكنيسة المارونيّة، التي لا تعتبر التعدّد اللغويّ الحتميّ عقبة في تأدية رسالتها واتّحاد أبنائها، لا تزال تُشدِّد على أهميّة إتقان اللغات، وسيلةً للتواصل ونقل المعارف.
الفصل الرابع : آفاق جديدة للعمل الثقافيّ المارونيّ
أولاً: ثقافة الترفيه والرياضة والثقافة البيئيّة
1. يُسهِم الترفيه في أنسنة الإنسان
- في مواجهة أحاديّة الفكر الإنتاجيّ – النفعيّ والاستهلاكيّ، بحيث ينجرف الإنسان بسهولة نحو دوّامة العمل المتواصل، تبرز بوضوح حاجة إنسان اليوم إلى أوقات للراحة والترفيه، يستعيد فيها سلامه مع ذاته وفرحه بالحياة. وبما أنّ مكننة العمل أصبحت اليوم شبه شاملة وتطال مختلف المجالات حتى الزراعيّة منها، فقد فقدَ الإنسان بذلك فرصة استعمال قواه الجسديّة وتمرينها طبيعيًّا من ناحية، ومن ناحية أخرى ابتعد عن الأرض والطبيعة وتلاشت علاقته بها لينـزوي غالب الأحيان في مكتبه مع تجهيزاته الإلكترونيّة.
- في وجه هذا الواقع المرتبط بحضارة اليوم، يحثّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني على “استخدام أوقات اللهو استخدامًا حسنًا للترويح عن النفس ولتقوية صحّة الجسد والروح”[37]. فبالترفيه والنشاطات غير النفعيّة يُعبِّر الإنسان عن كونه كائنًا لا يكتفي بإرضاء حاجاته الماديّة فقط، بل يسمو عليها تائقًا إلى عيش حريّة خلاّقة تجعله قادرًا على أن يُحوِّل حركة الكون إلى رقصة رمزيّة تُعلن عن فرحه بالحياة. والترفيه يكشف البعد الروحيّ في الإنسان الذي يتوق إلى ملء الحياة، فيبحث عن المغامرة والتحدّي، ويندهش أمام الفنّ والجمال، ويحقِّق ذاته بالفرح والبهجة والعيد، ويسعى دومًا لتخطّي اختباراته وإمكاناته نحو الأفضل.
- يشكر قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني الله على هذا البعد من الحياة الإنسانيّة، وبالأخصّ الرياضة، لأنّها عطيّة منه وعلامة لزمننا الحاضر تُقوِّي لدى الشباب فضائل أساسيّة كالنزاهة والمثابرة والمشاركة والتضامن والصداقة، وتساعد في تحقيق وحدة سليمة ومتناغمة بين الجسد والروح[38]. ويضيف قداسته بأنّ النشاطات الرياضيّة يمكن أن تكون “فرصة للتلاقي والحوار بين مختلف الفئات والشعوب ووسيلة لبناء حضارة المحبّة”[39].
2. الرياضة والترفيه في الطبيعة طريق إلى الله
- ومن صميم الروحانيّة المارونيّة اعتبار طريق القداسة يمرّ أوّلاً بعلاقة الإنسان المتكاملة والسليمة بذاته، بما فيها قدراته الجسديّة، وعلاقته بالطبيعة لأنّ قدرة الله الأزليّة وألوهته تظهر لنا في الخليقة كلّها (روم 1/20)، وهي أيضًا تنتظر بفارغ الصبر تجلّي قدرة الله والتحرّر من عبوديّة الفساد (روم 8/19-22). لذلك تعتبر الكنيسة المارونيّة أنّ تشجيع الرياضة والنشاطات الثقافيّة والترفيهيّة المرتبطة بالطبيعة هي من صلب رسالتها المسيحيّة ودعوتها المميّزة. وتأخذ النشاطات في الطبيعة بعدًا خاصًّا عندما تكون في لبنان، كون طبيعته صورة للجمال الإلهي ومجده بحسب الكتاب المقدّس (أش 35/2)، وكونها أيضًا أرض مقدّسة سارت عليها أقدام يسوع المسيح وتلاميذه، وأرض قداسة مليئة بالمناسك والأديار وأماكن الصلاة والعبادة التي بناها وارتادها آباؤنا وأجدادنا الموارنة منذ قرون طويلة.
- فبدل أن تكون النشاطات الرياضيّة خطرًا يُبعد المؤمنين عن واجباتهم الروحيّة – كالالتزام بيوم الربّ – أو يدفعهم إلى الانحراف نحو نوع من عبوديّة للجسد وقدراته المنفصلة عن بعدها الروحيّ، أو الإفراط في روح المنافسة، والسعي إلى الربح بأساليب غير سليمة كتناول المنشِّطات، أو تحويلها إلى مكسب مادّيّ خاضع لنظام السوق التجاريّ، يمكن للكنيسة المارونيّة أن تقدِّم إلى أبنائها وإلى الآخرين إمكانيّة ممارسة الرياضة مجالاً للترفيه ولتقوية الجسد وتوازنه ولتصويب العلاقة بالطبيعة، ولتحقيق الذات بكليّتها في إطار سليم يجعلهم في الوقت نفسه يسيرون على طريق معرفة الله ومحبّته.
- وقد يقتضي هذا الأمر تأسيس جمعيّات تُعنى بتنظيم هذا مثل تلك النشاطات في ضوء هذه الروحانيّة، كما أنّ ذلك يتحقّق من خلال تشجيع المبادرات في الرعايا والنوادي والمنظّمات الرسوليّة التي تدخل في هذا الإطار. وبما أنّ العلاقة مع الطبيعة كانت من صلب روحانيّة رهبانيّاتنا المارونيّة، فيمكن أن يكون اليوم لهذه الرهبانيّات دور رياديّ في إطلاق هذه الحركة الروحيّة والرسوليّة بأبعادها الجديدة.
3. الثقافة البيئيّة
- وانطلاقًا من التاريخ المارونيّ الذي شهد علاقة عضويّة بالأرض والطبيعة، وفي عالمنا الحاليّ الذي يواجه تحدّيات جذريّة يتوقّف عليها مصير البشريّة والحياة بأجمعها، كالانحباس الحراريّ وانثقاب طبقة الأوزون والتلوّث الناجم عن الازدحام السكّانيّ في المدن وتلوّث الهواء والمياه والتلوّث النوويّ… تُعنى الكنيسة المارونيّة في لبنان، وفي المجال الأنطاكيّ، كما على نطاق انتشارها العالميّ، بأن يكون لها برامج توجيهيّة، ومواقف عمليّة تتعاون بها مع هيئات المجتمع المدنيّ والحركات الكشفيّة والهيئات الرسميّة والدوليّة للحفاظ على بيئة سليمة، وبتشجيع العودة إلى التعامل مع الطبيعة بسلام واحترام الحياة احترامًا حقيقيًّا.
ثانيًا: ثقافة الحوار
1. أسس الحوار اللاهوتيّة
- “إنّ تاريخ الخلاص، يقول قداسة البابا بولس السادس، يخبرنا صراحةً عن هذا الحوار الطويل والمتنوِّع الذي يعقده الله مع الإنسان على نحوٍ مذهل”[40]. ويستنتج قداسته بأنّه على الكنيسة أن تدخل في حوار مع العالم الذي تعيش فيه. فبذلك “الكنيسة تصبح كلمة. الكنيسة تصبح رسالة. الكنيسة تصبح حوارًا”[41]. فمن هذا المنطلق لا يُعَدّ الحوار إستراتيجيّة معيّنة بل هو حالة كيانيّة مرتبطة بهويّة الكنيسة ودعوتها ورسالتها. والحوار، في نظر بطاركة الشرق الكاثوليك، هو “موقف روحيّ قبل كلّ شيء”[42] يقف فيه المرء أمام ربِّه، فينعكس ذلك على حواره مع نفسه وعلى حواره مع الآخرين. وعليه يصبح الحوار “روحانيّة تنقلنا من الاستبعاد إلى الاستيعاب، ومن الرفض إلى القبول، ومن التصنيف إلى التفهّم، ومن التشويه إلى الاحترام، ومن الإدانة إلى الرحمة، ومن العداوة إلى الإلفة، ومن التنافس إلى التكامل، ومن التنافر إلى التلاقي، ومن الخصومة إلى الأخوّة”[43].
- وثقافة الحوار التي عاشها الموارنة ومارسوها في محيطهم المشرقيّ، تقوم على هذه المرتكزات الروحيّة وعلى مبدأ الانفتاح على الآخر بكلّ خصوصيّاته في الاجتماع والسياسة والثقافة، بحيث تُصبح ثقافة الحوار مصدر إغناء للذات وللتراث الإنسانيّ. ويجب أن يكون الحوار، لما له من أهميّة، أكثر من وسيلة، بل هدفًا بحدّ ذاته. ولذلك فهو فضيلة إنسانيّة وروحيّة، تدعو الكنيسة المارونيّة إليها وتعلِّمها أبناءها وتعيشها داخليًّا ومع الآخرين على مختلف المستويات.
2. الموارنة في لبنان وفي العالم رسالة الحوار
- يدعو الإرشاد الرسوليّ مسيحيّي لبنان بإلحاح إلى “ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنيّة بالعالم العربيّ وتوطيدها”. كما يدعوهم إلى “اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربيّة، التي أسهموا فيها إسهامًا كبيرًا، موقعًا مميّزًا، لكي يقيموا، هم وسائر مسيحيّي البلدان العربيّة، حوارًا صادقًا وعميقًا مع المسلمين”[44]. وبسبب فرادة خبرتهم اللبنانيّة أعلن قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني مرارًا أنّ “لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالة حوار وتعايش”[45]. لذلك يأمل قداسته أن يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيّي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى[46]، فالحوار مهمّ لبلورة القيم والمفاهيم التي تحكم الاجتماع السياسيّ، ولإيجاد نقاط الالتقاء حول الإنسان والمواطن والمجتمع والدولة والتاريخ والكون. ويشارك موارنة الانتشار في هذه الرسالة من خلال علاقتهم بسائر المواطنين في بلادهم، وخاصّة بالمنتمين إلى أديان أخرى وبالأخصّ المسلمين، فيكون أبناء الكنيسة المارونيّة أينما حلّوا، رسل الانفتاح والحوار وعلامة حيّة لوحدة الأسرة البشريّة.
ثالثًا: ثقافة حقوق الإنسان
1. إنساننا يتألّم
- ينعقد المجمع البطريركيّ المارونيّ الحاليّ في مرحلة دقيقة تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط بكاملها، لا بدّ من أن يكون لها انعكاسات على دور الكنيسة المارونيّة الثقافيّ وعلاقتها بمحيطها المباشر. يقول بطاركة الشرق الكاثوليك: “الإنسان في منطقتنا هو إنسان متألِّم. فقد تألّبت عليه المحن من كلّ جانب في تاريخه المعاصر، حتى بات يعيش تحت علامة الألم والمعاناة، ويسير في درب الآلام وهو يحمل صليبه. إنّه يتألّم في كيانه الداخليّ، وفي ظروف معيشته اليوميّة التي يُصارع من أجل تحسين أحوالها. إنّه يتألّم بسبب قيوده الداخليّة، أو بسبب ما يُفرض عليه، أو بسبب تدخّل الآخرين في شؤونه، أو بسبب نظرة الآخرين إليه، أو بسبب الأدوات القمعيّة التي يتعرّض لها كلّ يوم من أهل بيته ومن الآخرين”[47]. ويُعبِّر قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني عن هذا الألم الذي يعيشه أيضًا الإنسان في لبنان وهو يرجو احترام تقاليده الثقافيّة والروحيّة، ويتوق بنوع خاصّ إلى الطمأنينة والازدهار، وإلى اعتراف حقيقيّ بحريّاته الجوهريّة[48].
2. دعوة إلى موقف نبويّ
- إنّ تضامن كنيستنا المارونيّة مع الإنسان المتألّم والمهضومة حقوقه، في لبنان أو المشرق أو في سائر بلدان العالم، والعمل على مساعدته وتحريره من الظلم، يريد أن يكون موقفًا نبويًّا، يتخطّى همّ الدفاع عن حقوقنا الذاتيّة الفرديّة أو الجماعيّة، على مشروعيّتها وأهميّتها. “إنّ تحرير الإنسان، يقول بطاركة الشرق الكاثوليك، وتطويره بشكل يتجاوب مع الكرامة التي أولاه الله إيّاها، ومقاومة الظلم أيًّا كان مصدره وأيًّا كان فاعله، لهي جانب من سرّ المسيح والكنيسة”[49] (1 يو 3/16).
- وفي مجتمعات الشرق الأوسط، هناك أولويّة في المطالبة والدفاع عن حقوق المرأة والعمل “على تعزيز مكانتها في الكنيسة والمجتمع، بحيث تأخذ دورها كاملاً في بناء الحياة الإنسانيّة”[50]. والأطفال والقاصرون الذين يعانون شتّى أنواع الانتهاكات في حقوقهم، إن كان على صعيد العنف المنـزليّ أو المجتمعيّ، أو على صعيد إخضاعهم لأعمالٍ شاقّة، أو لحرمانهم حقَّهم بالعلم والثقافة، ينتظرون منّا موقفًا والتزامًا لقضيّتهم. ويبقى الحقّ بالحياة والحريّة أساس كلّ الحقوق التي لن تكلّ الكنيسة المارونيّة في الدفاع عنها. يقتضي هذا الموقف النبويّ من كنيستنا التعاون مع المؤسّسات والمنظّمات المحليّة والدوليّة، التي تعمل في هذا المجال، والسعي إلى تأمين تنشئة علميّة تلائم هذه الرسالة، لرعاتها وعموم أبنائها.
رابعًا: ثقافة التواصل والتكنولوجيا الحديثة
- إنّ مطبعة دير مارأنطونيوس قزحيّا الأولى في الشرق (1585) هي خير دليل على تفاعل الكنيسة المارونيّة الإيجابيّ والسريع مع التكنولوجيا والوسائل الحديثة ووضعها في خدمة رسالتها. لذلك، وأمانةً لهذا التاريخ العريق، هي اليوم مدعوّة لأن تكون على مستوى الثورة الثقافيّة التي تؤمّنها وسائل الاتصالات الحديثة، خاصّة وأنّ ابناءها الموارنة منتشرون في مختلف أنحاء العالم، وهم بحاجة ماسّة إلى التواصل في ما بينهم ومع كلّ الأوساط الثقافيّة.
- وهذا الهدف يتحقّق عبر وسائل مختلفة. فتشجيع وتطوير مبادرات كمثل “الشبكة المارونيّة”، ووصل الأبرشيّات المارونيّة بعضها ببعض وبالبطريركيّة في بكركي عبر الإنترنيت، وكذلك بالنسبة إلى الجامعات المارونيّة والأكاديميّات العلميّة، هذا التشجيع أصبح أمرًا حتميًّا لا يجوز التردّد بشأنه. لكنّ ذلك يتطلّب تجهيزًا وتجديدًا للهيكليّات الكنسيّة ودعوة أشخاص يتمتّعون بالكفاية المناسبة لتحقيق هذه المشاريع، مع تشجيع عنصر الشباب ليقوموا بدورهم في هذا المجال. كما أنّه على كنيستنا الاهتمام بإنتاج أفلام وبرامج تلفزيونيّة ومواقع إلكترونيّة تعبّر عن تراثها وهويّتها وتعرّف العالم عليها. وأصبح من بالغ الأهميّة تنشئة الكهنة والطلاّب الإكليريكيّين والعاملين في المجالات الراعويّة والكنسيّة المختلفة على استعمال مختلف هذه الوسائل الحديثة استعمالاً فاعلاً وعلميًّا.
الخاتمة
الانثقاف تَجدّد مستمرّ بالروح القدس
- كما أنّ الروح القدس كان حاضرًا وفاعلاً في سرّ التجسّد منذ البداية (لو 1/35)، ومرافقًا ليسوع المسيح في رسالته بإعلان الملكوت وتحقيقه (لو 3/22؛ 4/18)، كذلك هو حاضر ومرافق للكنيسة في مسيرتها التاريخيّة في قلب العالم. وكما أنّ حشا مريم البتول وَلدَ كلمة الله الأزليّة بفعل حلول الروح، كذلك هو الروح عينه الذي “يُخصِب” الثقافات المتنوّعة لتصبح مجالاً لتجلّي الحضور الإلهيّ وتحقيقًا لمشروعه الخلاصيّ. فالكنيسة المارونيّة، في مسيرتها الانثقافيّة عبر مراحلها التاريخيّة المتعدِّدة، تسعى أن تكون دائمًا مصغية لما يقوله الروح لها (رؤ 2/7)، ومميِّزةً لعلامات الأزمنة (لو 12/56). هذا ما يجعل من علاقة الكنيسة المارونيّة بالثقافة أكثر من حدث خارجيّ يُحدِّد موقعها في العالم وتُحدِّد هي موقفها منه، بل تُصبح هذه العلاقة مجالاً حيويًّا للشهادة على حضور الله الفاعل في قلب التاريخ وعلى تدبيره الخلاصيّ.
توصيات النصّ وآليات العمل
الموضوع |
التوصية |
الآليّة |
1- كشف النقاب عن التراث المارونيّ.
|
1- يوصي المجمع بالعمل على كشف النقاب عن التراث المارونيّ في مصادره وأصوله ومختلف أبعاده، وعلى المحافظة عليه وإحيائه لكي يكون الشاهد والضامن والمحافظ على هويتنا. |
1- تتعاون اللجنة الأسقفيّة للتراث والممتلكات الكنسيّة مع الجامعات المارونيّة من أجل المعلومات، وإحصاء المعالم التراثيّة، ووضع جدول بما يجب انقاذه وترميمه، وتسعى مع المسؤولين إلى البحث عن أشخاص يرغبون في التخصّص في هذا المجال، من علمانيّين وكهنة ورهبان وراهبات، ليتفرغوا فيما بعد لهذا العمل.
|
2- إنشاء مركز أبحاث مارونيّة. |
2- يوصي المجمع بتشجيع مركز الأبحاث والدراسات المارونيّة الذي تمّ إنشاؤه في البطريركيّة.
|
|
3- إنشاء متحف مارونيّ.
|
3- يوصي المجمع بانشاء متحف مارونيّ يُجمع فيه كلّ ما يمكن أن يمثّل أو يعبّر عن التراث المارونيّ. |
3- تعيين لجنة خاصّة تعمل مع الجامعات المارونيّة وغير المارونيّة ومع الأبرشيّات والرهبانيّات على جمع هذا التراث. وينشأ في كلّ أبرشيّة ورهبانيّة متحف يضم هذا التراث كمقدّمة لقيام متحف مارونيّ مركزيّ.
|
4- تشجيع دور النشر الكنسيّة وإنشاء مكتبة مارونيّة مركزيّة.
|
4- يوصي المجمع أبناء الكنيسة بتشجيع دور النشر الكنسيّة الموجودة، وتشجيع الكتّاب والمؤلّفين الموارنة على نشر دراساتهم وأبحاثهم فيها. كما يوصي بإنشاء مكتبة مارونيّة مركزيّة تضمّ نسخة عن كلّ مؤلّفات الموارنة أو عن دار نشر مارونيّة أو ذات اهتمام مارونيّ. |
4-أ: تعيين لجنة خاصّة تضمّ ممثلين عن دور النشر وعن المؤلفين ويقع ضمن مهمّاتها الإسهام في أكلاف طباعة ونشر الأبحاث والدراسات التي تراها قيّمة وهامّة. 4-ب: إنشاء المكتبة في الكرسيّ البطريركيّ أو في أيّ مكان آخر يتم إعتماده (كمثل مركز الدراسات والأبحاث المارونيّة). |
5- تشجيع السياحة الدينيّة.
|
5- يوصي المجمع الأساقفة والكهنة والعاملين في الحقل السياحيّ بتشجيع السياحة الدينيّة إلى الأماكن التي تحمل جزءًا كثيفًا من تاريخنا الكنسيّ، كمثل وادي قنوبين، ومراكز البطريركيّة، والمزارات المريميّة، ومزارات القديسين وغيرها، على أن يتوفّر في هذه المزارات الجوّ الروحيّ الملائم. |
5- تنظيم هذه النشاطات وتسويقها من خلال مكاتب سياحة دينيّة، كمثل مكتب الرهبانيّة المارونيّة اللبنانيّة والرابطة المارونيّة، وذلك مع موارنة الانتشار وأصدقائهم. |
6- تشجيع النشاطات الرياضيّة والترفيهيّة. |
6- بما أنّ الروحانيّة المارونيّة تعتبر أنّ طريق القداسة يمرّ أوّلاً بعلاقة الإنسان المتكاملة والسليمة بذاته، بما فيها قدراته الجسديّة وعلاقته بالطبيعة، يوصي المجمع بتشجيع الرياضة والنشاطات الثقافيّة والترفيهيّة المرتبطة بالطبيعة لأنّها من صلب رسالتها المسيحيّة ودعوتها المميّزة. |
6- تأسيس نواد وجمعيّات للنشاطات الرياضيّة والترفيهيّة والمتصلة بالطبيعة.
|
7- إحياء الفنّ المارونيّ وتشجيعه. |
7- بما أنّ الفنّ هو جزء من التراث، وبما أنّ كنيستنا تشهد نهضة تهدف إلى إحياء الفنّ المارونيّ ان على صعيد الموسيقى والأناشيد الكنسيّة، أو على صعيد الرسم التشكيليّ والإيقونوغرافيّ، أو على صعيد الهندسة الكنسيّة والفولكلور والأدب، يوصي المجمع بالعمل على تحديد معايير الفنّ المارونيّ وبتشجيع النهضة القائمة، ولاسيّما في الجامعات المارونيّة. |
7- التنسيق مع لجنة الفنّ الكنسيّ من أجل تشجيع الفنّانين الموارنة، وإقامة المعارض الجوّالة في العالم، وتبادل الخبرات، ودعم محترفات الفنّ المارونيّ الكنسيّ. |
1. راجع: المجمع الفاتيكانيّ الثاني، دستور راعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم، عدد 53.
2. يوحنّا بولس الثاني، الرسالة بخطّ يده لتأسيس المجلس الحبريّ للثقافة، 20 أيّار 1982، الوثائق الكاثوليكيّة 79 (1982)، 604-606.
3. دستور راعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم، عدد 53. راجع ايضًا: خطاب يوحنّا بولس الثاني في الأونسكو (2 حزيران1980).
4. راجع: يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 8. كذلك: مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 28.
5. يوحنّا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 52.
6. المرجع ذاته، عدد 52.
7. يوحنّا بولس الثاني، نور الشرق، عدد 5.
8. راجع: مرسوم في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، عدد 5، ويوحنّا بولس الثاني، نور الشرق، عدد 7.
9. المرجع ذاته، عدد 5.
10. راجع: يوحنّا بولس الثاني، بهاء الحقيقة، عدد 53.
11. المجلس الحبريّ للثقافة، من أجل راعويّة الثقافة، عدد 3.
12. دستور عقائديّ في الكنيسة، عدد 17.
13. يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 15.
14. الأب يوحنّا تابت، إنسان الشحيمة المارونيّة: مُزارِع وطبيب، منشورات معهد الليتورجيا، الليتورجيا والعلوم الإنسانيّة، 15 (1992)، ص 77- 140.
15. القدّاس الإلهيّ بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، صلاة التذكارات في النافور، بكركي، 1992، ص 609.
16. مثل كنائس شامات ومعاد وسواهما في منطقة جبيل.
17. الأب يوحنّا تابت، ريش قربان مارونيّ قديم (1242 م)، الكسليك، 1988.
18. راجع: الأب سمير خليل سمير اليسوعيّ، دور المسيحيّين الثقافي في العالم العربيّ (1)، دار المشرق، بيروت، 2003.
19. نعرف أنّ المطران داود المارونيّ ترجم كتاب الهدى المنسوب الى الأب القدّيس من السريانيّة الى العربيّة نزولاً عند طلب الأخ المبارك يوسف الراهب، وذلك سنة 1058/1059. والكتاب يحتوي على قسمين: القسم الأوّل يتضمّن الفرائض التي افترضها الله على الناس بهدف كمال الحياة المسيحيّة، والقسم الثاني يتضمّن مجموعة من المراسيم الملوكيّة والقوانين المختلفة والتقاليد الحقوقيّة القديمة العهد.
20. مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحيّ في الشرق: شهادة ورسالة، بكركي، 1992، عدد 29.
21. يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 41.
22. سينودس الأساقفة، الجمعيّة الخاصّة من أجل لبنان، المسيح رجاؤنا: بروحه نتجدّد، ومعًا للمحبة نشهد. الخطوط العريضة، الفاتيكان، 1993، عدد 1.
23. يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، بيروت، 1997، عدد 1.
24. مثل كنائس الغينة والزهراني وقبر حيرام والجيّة والنبطيّة ونبحا وصور وبيت مري وجبيل وغيرها.
25. يُضاف الى هذا الوادي المقدّس، وادي عين الراحة في تنّورين، ووادي حربا في البترون ودير مار مارون على ضفاف نهر العاصي.
26. منها كنائس بحديدات ومعاد وبلاط وشامات في جبيل وسمار جبيل في البترون ومار ماما في إهدن.
27. E. Renan, Mission de Phénicie, Imprimerie impériale, Paris, 1864, p.221
28. دير الصليب (وادي قنّوبين)، دير مار سمعان العموديّ (ساقية الخيط)، سيّدة الدرّ (بشرّي)، مغارة القدّيسة مارينا (القلمون)، كنيسة مار شربل (معاد)، كنيسة مار سابا (إدّه – البترون)، كنيسة مار الياس (بلاط)، كنيسة سيّدة قصوبا (جبيل)، كنيسة سيّدة قنّوبين، وغيرها.
29. أمثال داود القرم (1852-1930) وحبيب سرور (1860-1939) وإبراهيم الجرّ وفيليب موراني (1875-1970) ويوسف الحويّك (1883-1962).
30. أمثال قيصر الجميّل (1898-1958) وميشال بصبوص (1921-1981) وصليبا الدويهي (1912-1994).
31. راجع: المجلس الحبريّ للثقافة، من أجل راعويّة الثقافة، الفاتيكان، 1999، عدد 37.
32. الكنيسة في عالم اليوم، عدد 55.
33. المرجع ذاته، عدد 56، رقم 6.
34. المرجع ذاته، عدد 54.
35. مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، سرّ الكنيسة، 1996، عدد 4.
36. المرجع ذاته، عدد 11.
37. الكنيسة في عالم اليوم، عدد 61.
38. راجع: يوحنّا بولس الثاني، مسؤوليّة الرياضيّين الكبيرة في العالم. عظة القدّاس الاحتفاليّ بيوبيل الرياضيّين، 29 تشرين الأوّل 2000، في: الوثائق الكاثوليكيّة، عدد 2237، ص 1011-1012.
39. المرجع ذاته، ص 1011.
40. بولس السادس، “في الكنيسة”، الوثائق الكاثوليكيّة، ص 1080.
41. المرجع ذاته.
42. مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحيّ في الشرق: شهادة ورسالة، عدد 47.
43. المرجع ذاته.
44. يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 93.
45. يوحنّا بولس الثاني، “رسالة متلفزة الى البطاركة والأساقفة المجتمعين في بكركي”، أوسرفاتوري رومانو، 27/5/1990.
46. راجع: يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 93.
47. مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحيّ في الشرق: شهادة ورسالة، عدد 53.
48. يوحنّا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 17.
49. مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحيّ في الشرق: شهادة ورسالة، عدد 55.
50. المرجع ذاته، عدد 55.